المطلب الثاني: حكم الرجوع في الهبة بعد القبض
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أن لا يجوز. [ ص: 90 ] الرجوع في الهبة بعد القبض
قال به المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية.
الأدلة:
1- ما تقدم من الأدلة على لزوم الهبة بالقبض.
وجه الدلالة: دلت هذه الأدلة على لزوم الهبة بالقبض، واستقرارها ودخولها في ملك الموهوب له، وإذا كان كذلك فليس للواهب الرجوع.
2- ما رواه -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ابن عباس "العائد في هبته كالكلب يقيء، ثم يعود في قيئه".
وجه الدلالة: أن الحديث يدل على تحريم الرجوع في الهبة; لتشبيه العود فيها بالرجوع في القيء وهو حرام، والذي يعتبر من أسوأ أحواله.
ونوقش: أن الحديث لا يدل على تحريم الرجوع في الهبة، وذلك أن فعل الكلب لا يوصف بالحرمة، وإنما يوصف بالقبح، فهذا التشبيه لخساسة الفعل، ودناءة الفاعل، فيقال بكراهة العود، لا بتحريمه، قال [ ص: 91 ] "فدل هذا الحديث على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما أراد بما قد ذكرنا في الحديث الأول تنزيه أمته عن أمثال الكلاب، لا أنه أبطل أن يكون لهم الرجوع في هباتهم. الطحاوي:
وأجيب:
أن عرف الشرع: أن المراد بهذا التشبيه إنما هو الزجر الشديد عن الفعل، فهو متضمن للنهي عنه، والتنفير منه، الذي يدل على تحريم الإتيان بمشابهة الكلب، لا سيما وأن في إحدى روايات حديث -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ابن عباس "ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه".
3- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل للرجل أن يعطي عطية، أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده ...".
ونوقش هذا الاستدلال: أن معنى قوله: "لا يحل" هو: التحذير عن الرجوع، لا نفي الجواز عنه، كما في قولك: "لا يحل للواجد رد السائل".
وأجيب: بأن لفظ "لا يحل" ظاهر في التحريم، فلا تحمل على غير الظاهر إلا بدليل، ولا دليل على ذلك.
4- أن الهبة تلزم بالقبض، فلا يجوز الرجوع فيها; كما لا يجوز الرجوع في البيع اللازم. [ ص: 92 ]
قال في كفاية الأخبار: "ثم إذا حصل القبض المعتبر لزمت الهبة، وليس للواهب الرجوع فيها كسائر العقود اللازمة".