[ ص: 69 ] سورة الإسراء
مكية إلا قوله : وإن كادوا ليفتنونك إلى آخر ثماني آيات ، قدر آيها مئة وإحدى عشرة آية ، وحروفها ستة آلاف وأربع مئة وستون حرفا ، وكلمها ألف وخمس مئة وثلاث وثلاثون كلمة .
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير .
[1] سبحان الذي أسرى بعبده ليلا (سبحان ) تنزيه الله من كل سوء ، ووصفه بالبراءة من كل نقص ، وتكون (سبحان ) بمعنى التعجب ، (أسرى ) ؛ أي : سيره ، و (العبد ) هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لم يختلف في ذلك أحد من الأمة ، و (ليلا ) نصب على الظرف .
من المسجد الحرام هو المسجد المحيط بالكعبة ، وقيل : من بيت من الحرم ، قال ابن عباس : "الحرم كله مسجد" . أم هانئ
إلى المسجد الأقصى هو مسجد بيت المقدس ، وبينهما مسيرة شهر ، [ ص: 70 ] وسمي الأقصى ، لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ، وقيل : كان هذا أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة ، وقيل : لبعده عن الأقذار والخبائث ، وروي أنه سمي الأقصى ؛ لأنه وسط الدنيا لا يزيد شيئا ولا ينقص .
الذي باركنا حوله والبركة حوله من جهتين : إحداهما : بالنبوة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر في نواحيه وبواديه ، والأخرى : النعم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة التي خص الله الشام بها ، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "إن الله بارك فيما بين العريش إلى الفرات" ، وخص فلسطين بالتقديس ، ولو لم يكن له من الفضيلة غير هذه الآية ، لكانت كافية فيه ؛ لأنه إذا بورك حوله ، فالبركة فيه مضاعفة .
لنريه أي : محمدا - صلى الله عليه وسلم - بعينه من آياتنا في السموات والملائكة والجنة والنار ، ولقيا الأنبياء ، وغير ذلك مما رآه تلك الليلة من العجائب ، وذهابه ورجوعه في جزء من ليلة .
إنه هو السميع لما تقولون البصير بأفعالكم ، وعيد من الله للكفار على تكذيبهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - في أمر الإسراء .
وأما قصة الإسراء ، فملخصها : أن الله سبحانه وتعالى بعث رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنزل عليه الوحي ، وأمره بإظهار دينه ، وأيده بالمعجزات الظاهرة ، والآيات الباهرة ، أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وهو بيت المقدس من إيليا ، وقد فشا الإسلام في قريش وفي [ ص: 71 ] القبائل كلها ، وكان الإسراء ليلة سبع عشرة من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة .
وقال : وقد قيل : كان في ليلة سبع وعشرين من شهر رجب . ابن الجوزي
وقيل : في شهر رمضان ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما .
واختلف في الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقيل : إنما كان جميع ذلك في المنام ، والحق الذي عليه أكثر الناس ومعظم السلف ، وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بجسده - صلى الله عليه وسلم - يقظة ؛ لأن قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس [الإسراء : 60] تدل على ذلك ، ولو كانت رؤيا نوم ، ما افتتن بها الناس حتى ارتد كثير ممن كان أسلم ، وقال الكفار : يزعم محمد أنه أتى بيت المقدس ورجع إلى مكة في ليلة واحدة ، والعير تطرد إليه شهرا مدبرة ، وشهرا مقبلة ، ولو كانت رؤيا نوم ، لم يستبعد ذلك منه .
قال رضي الله عنهما : "هي رؤيا عين رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - لا رؤيا منام" ، قال الله تعالى : ابن عباس ما زاغ البصر وما طغى [النجم : 17] أضاف الأمر للبصر ، وقوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى [النجم : 11] ؛ أي : لم يوهم القلب العين غير الحقيقة ، بل صدق رؤيتها .
واختلف السلف والخلف ؟ فأنكرته [ ص: 72 ] هل رأى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء رضي الله عنها ، وروي عن عائشة رضي الله عنهما قال : "رآه بعينه" ، ومثله عن ابن عباس ، أبي ذر ، وكعب والحسن ، وكان يحلف على ذلك ، وحكي مثله عن ، ابن مسعود ، والإمام وأبي هريرة رضي الله عنه ، وحكى النقاش عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال : "أنا أقول بحديث أحمد : "بعينه رآه" رآه ، حتى انقطع نفس الإمام ابن عباس ، وعن أحمد" : أنه قال : "إن الله اختص ابن عباس موسى بالكلام ، وإبراهيم بالخلة ، ومحمدا بالرؤية" ، وحجته قوله : ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى [النجم : 11 - 13] .
واختلفوا في أن ؟ فذكر عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هل كلم ربه عز وجل ليلة الإسراء أنه قال : "أوحي إليه بلا واسطة" ، وإلى هذا ذهب بعض المتكلمين أن جعفر بن محمد الصادق محمدا كلم ربه ليلة الإسراء ، وحكوه عن ، ابن عباس . وابن مسعود
واختلف في المكان الذي أسري به منه ، فروي عنه - صلى الله عليه وسلم - : أنه قال : ، وفي رواية أنه قال : "بينا أنا نائم في بيت "بينا أنا في الحطيم وربما قال : في الحجر مضطجع ، ومنهم من قال : بين النائم واليقظان" بنت أبي طالب" والذي رجحه أم هانئ الطبري أنه من المسجد المحيط بالكعبة ، قال : [ ص: 73 ]
وهذا الذي يعرف إذا ذكر هذا الاسم ، وكانت ليلة الاثنين "إذ هبط علي الأمين جبريل عليه السلام" وذكر القصة .
وكان من حديث المعراج الشريف ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ، وفي رواية : "أتيت بالبراق ، وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه قال : فركبته حتى أتيت بيت المقدس ، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء ، ثم دخلت المسجد ، فصليت فيه ركعتين" "فلما دخلت المسجد ، إذا أنا بالأنبياء والمرسلين قد حشروا إلي من قبورهم ، ومثلوا لي ، وقد قعدوا صفوفا صفوفا ينتظروني ، فسلموا علي ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : إخوانك الأنبياء والمرسلون ، زعمت قريش أن لله شريكا ، وزعمت اليهود والنصارى أن لله ولدا ، اسأل هؤلاء النبيين هل كان لله عز وجل شريك ؟ ثم قرأ : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [الزخرف : 45] ، فلم يشكك - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يسألهم ، وكان أثبت يقينا من ذلك" .
قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المفسر في "كتاب التنزيل" له : إن هذه الآية أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيت المقدس ليلة أسري به ، وقد عدها غيره من العلماء في الشامي ، والذي قاله أبو القاسم أخص مما ذكروه .
وقال جماعة من المفسرين : فلما أنزلت ، وسمعها الأنبياء عليهم السلام ، أقروا لله عز وجل . [ ص: 74 ]
قال - صلى الله عليه وسلم - : "ثم جمعهم جبريل عليه السلام ، وقدمني فصليت بهم ركعتين ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر ، وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبريل : اخترت الفطرة ، ثم عرج بنا إلى السماء ، فاستفتح جبريل فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل ، قيل : من معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا بآدم - صلى الله عليه وسلم - ، فرحب بي ، ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا بابني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا صلى الله عليهما ، فرحبا بي ، ودعوا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فذكر مثل الأول ففتح لنا ، فإذا أنا بيوسف عليه السلام ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ، فرحب بي ، ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة وذكر مثلها ، فإذا أنا بإدريس عليه السلام ، فرحب بي ، ودعا لي بخير ، قال الله تعالى : ورفعناه مكانا عليا [مريم : 57] ، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فذكر مثله ، فإذا أنا بهارون عليه السلام ، فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة ، فذكر مثله ، فإذا أنا بموسى ، فرحب بي ، ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السابعة ، فذكر مثله ، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، فإذا ورقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال ، قال : فلما غشيها من أمر الله ما غشي ، تغيرت ، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها ، فأوحى الله إلي ما أوحى ، ففرض علي خمسين صلاة في كل [ ص: 75 ] يوم وليلة ، فنزلت إلى موسى فقال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك لا يطيقون ذلك ؛ فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم ، قال : فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب! خفف عن أمتي ، فحط عني خمسا ، فرجعت إلى موسى فقلت : حط عني خمسا ، قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال : فلم أزل أرجع بين ربي تعالى وبين موسى حتى قال : يا محمد! إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة ، لكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، ومن هم بحسنة فلم يعملها ، كتبت له حسنة ، فإن عملها ، كتبت له عشرا ، ومن هم بسيئة فلم يعملها ، لم تكتب شيئا ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، قال : فنزلت حتى انتهيت إلى موسى ، فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال : فقلت : قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه وفي رواية : يا موسى! قد والله استحييت من ربي مما أختلف إليه ، قال : فاهبط باسم الله ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ثم حملني حتى أنزلني على جبل بيت المقدس ، فإذا أنا بالبراق واقف على حاله في موضعه ، فسميت الله ، واستويت على ظهره ، فما كان بأسرع من أن أشرفت على مكة ومعي جبريل ، قال - صلى الله عليه وسلم - : لما كانت صبيحة ليلة أسري بي ، أصبحت بمكة متحيرا في أمري ، وعلمت أن الناس يكذبوني ، فعدت معتزلا حزينا إلى ناحية من نواحي المسجد ، فمر بي أبو جهل عدو الله ، فجاء حتى جلس [ ص: 76 ] إلي ، فقال لي كالمستهزئ : هل كان من شيء يا محمد ؟ فقلت : نعم ، قال : وما هو ؟ قلت : إني أسري بي الليلة ، قال : إلى أين ؟ قلت : إلى بيت المقدس ، قال : ثم أصبحت بين أظهرنا ؟! قلت : نعم ، فقال أبو جهل : يا معشر قريش! يا معشر بني كعب بن لؤي! هلموا ، فانتقضت المجالس ، وجاؤوا حتى جلسوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال أبو جهل : حدث قومك يا محمد بما حدثتني ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني أسري بي الليلة ، قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس ، قالوا : ثم أصبحت بين أظهرنا ؟! قال : نعم ، فبقي منهم المتعجب ، ومنهم المصفق ، ومنهم الواضع يده على أم رأسه ، ثم قالوا : هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ قلت : نعم ، قال : فذهبت أنعته حتى التبس علي بعض النعت ؛ لكوني دخلته ليلا ، فجيء بالمسجد أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل ، فجعلت أنظر إليه وأخبرهم عن آياته ، قال - صلى الله عليه وسلم - : وآية ذلك أنني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا ، فأنفرهم حس الدابة ، فند لهم بعير ، فدللتهم عليه وأنا متوجه نحو الشام ، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان ، فوجدت القوم نياما ، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء ، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ، ثم غطيت عليه كما كان ، وإن عيرهم الآن تصوب من البيضاء ثنية التنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان ، إحداهما سوداء ، والأخرى برقاء ، فابتدر القوم الثنية ، فلم يلقهم أولا إلا الجمل الذي وصف لهم ، وسألوهم عن الإناء ، فأخبروهم أنهم وضعوه مملوءا ماء ، ثم غطوه ، وأنهم افتقدوه من الليل فوجدوه كما غطوه ولم يجدوا فيه ماء ، وسألوا القوم الذين ند لهم البعير ، فقالوا : صدق والله ، لقد ند لنا بعير بالوادي الذي ذكره ، فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه ، وإنه لأشبه الأصوات بصوت محمد بن عبد الله ، فجئنا حتى أخذناه ، وفي [ ص: 77 ] رواية : ومررت بعيركم بالتنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان تطلع عليكم مع طلوع الشمس ، فخرجوا إلى الثنية وجلسوا ينتظرون طلوع الشمس ليكذبوه إذ قال قائل : هذه الشمس قد طلعت ، قال آخر : هذه العير قد أقبلت يقدمها بعير أورق كما قال ، فقالوا : إن هذا إلا سحر مبين ، فحينئذ آمن من آمن ، وكفر من كفر ، وذهب الناس إلى رضي الله عنه ، فقالوا : هل لك يا أبي بكر في صاحبك أنه يزعم أنه قد جاء الليلة بيت المقدس ، وصلى فيه ورجع إلى مكة ، فقال أبا بكر رضي الله عنه : "والله لئن كان قال ، لقد صدق ، فما يعجبكم من ذلك ؟ فوالله إنه ليخبرنا عن الوحي من الله يأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة واحدة من ليل أو نهار ، فنصدقه ، فهذا أبعد مما تعجبون منه ، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا نبي الله! أحدثت هؤلاء أنك جئت أبو بكر بيت المقدس هذه الليلة ؟ قال : نعم ، قال : صدقت ، فصفه لي يا نبي الله ؛ فإني جئته ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "فرفع إلي حتى نظرت إليه" ، وجعل يصفه وهو يقول : صدقت ، أشهد أنك رسول الله ، حتى انتهى ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "وأنت يا لأبي بكر فسمي من ذلك اليوم صديقا ، قال الله تعالى : أبا بكر الصديق" والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون [الزمر : 33] ، ثم أنزل الله سورة النجم تصديقا له - صلى الله عليه وسلم - .
* * *