الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما قولك إن المشهورين من العلماء هم الفقهاء والمتكلمون فاعلم أن ما ينال به الفضل عند الله شيء وما ينال به الشهرة عند الناس شيء آخر فلقد كان شهرة أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه بالخلافة وكان فضله بالسر الذي وقر في قلبه وكان شهرة عمر رضي الله عنه بالسياسة وكان فضله بالعلم بالله الذي مات تسعة أعشاره بموته وبقصده التقرب إلى الله عز وجل في ولايته وعدله وشفقته على خلقه وهو أمر باطن في سره فأما سائر أفعاله الظاهرة فيتصور صدورها من طالب الجاه والاسم والسمعة والراغب في الشهرة فتكون الشهرة فيما هو المهلك والفضل فيما هو سر لا يطلع عليه أحد فالفقهاء والمتكلمون مثل الخلفاء والقضاة والعلماء وقد انقسموا فمنهم من أراد الله سبحانه بعلمه وفتواه وذبه عن سنة نبيه ولم يطلب به رياء ولا سمعة فأولئك أهل رضوان الله تعالى وفضلهم عند الله لعملهم بعلمهم ولإرادتهم وجه الله سبحانه بفتواهم ونظرهم فإن كل علم عمل فإنه فعل مكتسب وليس كل عمل علما والطبيب يقدر على التقرب إلى الله تعالى بعلمه فيكون مثابا على علمه من حيث إنه عامل لله سبحانه وتعالى به والسلطان يتوسط بين الخلق لله فيكون مرضيا عند الله سبحانه ومثابا لا من حيث إنه متكفل بعلم الدين بل من حيث هو متقلد بعمل يقصد به التقرب إلى الله عز وجل بعلمه .

وأقسام ما يتقرب به إلى الله تعالى ثلاثة علم مجرد وهو علم المكاشفة وعمل مجرد وهو كعدل السلطان مثلا وضبطه للناس ومركب من عمل وعلم وهو علم طريق الآخرة فإن صاحبه من العلماء والعمال جميعا فانظر إلى نفسك أتكون يوم القيامة في حزب علماء الله وأعمال الله تعالى أوفى حزبيهما فتضرب بسهمك مع كل فريق منهما فهذا أهم عليك من التقليد لمجرد الاشتهار كما قيل .


خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

على أنا سننقل من سيرة فقهاء السلف ما تعلم به أن الذين انتحلوا مذاهبهم ظلموهم وأنهم من أشد خصمائهم يوم القيامة فإنهم ما قصدوا بالعلم إلا وجه الله تعالى وقد شوهد من أحوالهم ما هو من علامات علماء الآخرة كما سيأتي بيانه في باب علامات علماء الآخرة فإنهم ما كانوا متجردين لعلم الفقه بل كانوا مشتغلين بعلم القلوب ومراقبين لها ولكن صرفهم عن التدريس والتصنيف فيه ما صرف الصحابة عن التصنيف والتدريس في الفقه مع أنهم كانوا فقهاء مستقلين بعلم الفتوى والصوارف والدواعي متيقنة ولا حاجة إلى ذكرها .

التالي السابق


( وأما قولك إن المشهورين من العلماء) الذين يقتدى بهم (هم الفقهاء والمتكلمون) خاصة (فاعلم أن ما ينال به الفضل) والرتبة والشرف (عند الله) عز وجل (وما ينال به الشهرة) بالنشر والتعليم (عند الناس) عامتهم وخاصتهم (شيء آخر) وهما مفترقان (فلقد كان شهرة أبي بكر، رضي الله [ ص: 190 ] عنه بالخلافة) أي بأنه خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (وكان فضله بالسر الذي وقر في صدره) وأودع فيه (وكان شهرة عمر) -رضي الله عنه- (بالسياسة) العامة في انتظام أمور الإسلام وسد أفواه المجادلين (وكان فضله بالعلم بالله تعالى الذي) أشار ابن مسعود يوم موته إلى أنه (مات تسعة أعشار العلم بموته) وكذا (بقصد التقرب إلى الله تعالى في ولايته وعدله) في الرعية (وشفقته على خلقه) مع كمال زهده وورعه واقتصاده في المعيشة كما هو معروف في مناقبه (وهو) أي: قصده التقرب إلى الله تعالى في تلك الأحوال (أمر باطني في سره) لا يطلع عليه إلا الله -عز وجل- (فأما سائر أفعاله الظاهرة فيتصور صدورها من طالب الجاه) عند ذي الثروة (و) طالب (الاسم) ليقال إنه كذا (و) طالب (السمعة) ليسمع به (و) من (الراغب في الشهرة) الظاهرة (فتكون الشهرة فيما هو المهلك والفضل فيما هو سر) خفي (لا يطلع عليه أحد) لبطونه عن الإدراك .

(فالفقهاء والمتكلمون) من طوائف العلماء (مثل الخلفاء والقضاة) في السياسة وإجراء الأحكام (وقد انقسموا) على أقسام (فمنهم من أراد) وجه (الله) تعالى فقط (بعلمه) الذي ينشره (وفتواه) في الأحكام الشرعية (وذبه) أي: دفعه ( عن سنته) أي: طريقة الله -عز وجل- (ولم يطلب فيه رياء ولا سمعة) ولا شهرة ولا جاها ولا غير ذلك (فأولئك أهل رضوان الله) الذين يحل عليهم رضاه في دار كرامته (لعملهم بعلمهم) أي: لم يكتفوا بعلمهم حتى عملوا به (ولإرادتهم وجه الله) -عز وجل- (بفتواهم) عندما احتاج الناس إليه (ونظرهم) وبحثهم (فإن كل علم عمل به) أي بمقتضاه وفي نسخة فإن كل علم عمل ولكن لا يلائمه قوله (فإنه فعل مكتسب وليس كل عمل علما) لصدور بعض الأعمال خالية عن الإخلاص والنية، فلا يسمى علما حقيقة (و) ليس هذا الذي ذكرناه خاصا في العلوم الشرعية بل (الطبيب) أيضا (يقدر على التقرب إلى الله تعالى بعلمه) إذا أراد بذلك وجه الله تعالى (فيكون مثابا على علمه من حيث إنه عامل لله) عز وجل (به و) كذلك (السلطان يتوسط بين الخلق لله عز وجل) في سياسته بانتظام الخلق وأحوالهم (يكون مرضيا عند الله لا من حيث إنه متكفل بعلم الدين) ونشره وإفادته وقائم بإزائه (بل) من حيث (هو متقلد لعمل) السياسة (يقصد به التقرب إلى الله تعالى) بإمحاض النية فيه فهذه أقسام من يريد بعلمه وعمله وجه الله -عز وجل- من الفقهاء والسلاطين (وأقسام ما يتقرب به إلى الله تعالى ثلاثة علم مجرد) عن العمل أي لا حظ له فيه (وهو علم المكاشفة وعمل مجرد) عن العلم لا ينظر إليه (كعدل السلطان مثلا وضبطه للناس) بالسياسة (و) ما هو (مركب من علم وعمل) كل منهما ملاحظ (كعدل السلطان مثلا وضبطه للناس) بالسياسة (و) ما هو (مركب من علم وعمل) كل منهما ملاحظ (وهو علم طريق الآخرة) المنوط بهما (فإن صاحبه من العلماء والعمال جميعا) عالم بالله وبأمر الله، وعامل بما علم لوجه الله (فانظر) أيها المتأمل (إلى نفسك) تحب أن (تكون يوم القيامة في حزب عمال الله) مع السلاطين (أو) حزب (علماء الله) مع أهل المكاشفة (أو حزبهما) معا (فتضرب سهمك مع كل فريق منهما) أي تأخذ بحظك مع كل منهما (فهذا) الذي ذكرناه لك (أهم) وأعلى (من التقليد) الصرف (بمجرد الاشتهار) فقط (كما قيل) فيما نص في مثل هذا المقام:

(خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل)

زحل كصرد ممنوعا من الصرف، قال المبرد: للمعرفة والعدل كوكب من الخنس، سمي به لأنه زحل أي: بعد، ويقال: إنه في السماء السابعة، وفي بعض النسخ في طلعة البدر (على أنا سننقل) في هذا الكتاب (من سيرة فقهاء السلف) أي: طريقتهم (ما يعلم به) ويتحقق (أن الذين انتحلوا) أي اتخذوا (مذاهبهم) نحلة لهم [ ص: 191 ] أي: نسبة، والانتحال الانتساب والاعتزاء (ظلموهم) ونقصوا من قدرهم (وإنهم) أي: أولئك الأئمة (من أشد خصمائهم) وأكبر أعدائهم (يوم القيامة) حين العرض بين يدي الله تعالى (فإنهم) أي: الأئمة (ما قصدوا بالعلم) الذي حصلوه (إلا وجه الله تعالى) فقط (وقد شوهد من أحوالهم) الظاهرة في حركاتهم وسكناتهم (ما هو علامات) دالة على (أنهم من علماء الآخرة) وهو الباب السادس (وإنهم ما كانوا متجردين لعلم الفقه) ، أي: لم تكن همتهم مصروفة إلى تحصيله فقط، (بل كانوا مشتغلين بعلم القلوب) ، الذي هو الأهم لسالك الآخرة (ومراقبين لها) أي: للقلوب حافظين لها; مما يطرأ عليها من اللمم المختلفة، (ولكن صرفهم) أي: منعهم ( عن التصنيف) أي: التأليف والتدريس أي: التعليم والإفادة لذلك (فيه) أي: في علم القلوب (ما صرف الصحابة) رضي الله عنهم ( عن التصنيف والتدريس في الفقه مع أنهم كانوا فقهاء) عرفاء مستقلين (بعلم الفتاوى) تلقى عنهم الأحكام (والصوارف والدواعي متعينة ولا حاجة إلى ذكرها) قال صاحب القوت: كان العلماء الذين هم أئمة هؤلاء العلماء من طبقات الصحابة الأربعة ومن بعد الطبقة الأولى من خيار التابعين الذين انقرضوا قبل وضع الكتب كانوا يكرهون كتب الحديث وتصنيف الكتب; لئلا يشتغل بها عن القرآن وعن التذكر والتفكر وقالوا احفظوا كما كنا نحفظ ولئلا يشتغل عن الله برسم أو وسم وكذلك كانوا يتلقون العلم بعضهم من بعضهم ويحفظونه حفظا ظاهرا لطهارة القلوب من الريب وفراغها من أسباب الدنيا وقوة الإيمان وصفاء اليقين وعلو الهمة وحسن النية وقوة العزيمة اهـ .




الخدمات العلمية