وكذلك يقول الإسكندر: إنه لا بد أن تكون ها هنا قوة روحانية سارية في جميع أجزاء العالم، كما يوجد في جميع أجزاء الحيوان الواحد قوة تربط أجزاءه بعضها ببعض. والفرق الذي بينهم أن الرباط الذي في العالم قديم من قبل أن الرابط قديم، والرباط الذي بين أجزاء [ ص: 231 ] الحيوان ها هنا كائن فاسد بالشخص غير كائن ولا فاسد بالنوع، من قبل الرباط القديم، من قبل أنه لم يمكن فيه أن يكون غير كائن ولا فاسد بالشخص، كالحال في العالم، فتدارك الخالق سبحانه هذا النقص الذي لحقه بهذا النوع من التمام الذي لم يكن فيه غيره، كما يقوله أرسطو في كتاب الحيوان) .
قال: (وقد رأينا في هذا الوقت كثيرا من أصحاب لموضع هذا الشك، تأولوا على ابن سينا، هذا الرأي، وقالوا: إنه ليس يرى أن ها هنا مفارقا وقالوا: إن ذلك يظهر من قوله في واجب الوجود في مواضع، وإنه المعنى الذي أودعه في فلسفته المشرقية. قالوا: وإنما سماها فلسفة مشرقية، لأنها مذهب أهل المشرق، ويرون أن الآلهة عندهم هي الأجرام السماوية، على ما كان يذهب إليه وهم مع هذا يضعفون طريق ابن سينا أرسطو في إثبات المبدأ الأول من طريق الحركة) .
قال: (ونحن قد تكلمنا على هذه الطريقة غير ما مرة، [ ص: 232 ] وبينا الجهة التي منها يقع اليقين لها، وحللنا جميع الشكوك الواردة عليها. وتكلمنا أيضا على طريقة الإسكندر في ذلك أعني الذي اختاره في كتابه الملقب بالمبادئ وذلك أنه يظن أنه عدل عن طريقة أرسطو إلى طريقة أخرى، لكنها مأخوذة من المبادئ التي بينها أرسطو، وكلا الطريقين صحيحة، لكن الطبيعة أكثر ذلك هي طريقة أرسطو).
قال: (ولكن إذا حققت طريقة واجب الوجود عندي، على ما أصف كانت حقا، وإن كان فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل، وهو أن يتقدمها العلم بأصناف الممكنات: الوجود في الجوهر، والعلم بأصناف الواجبة الوجود في الجوهر. وهذه الطريقة هي أن نقول: إن الممكن الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود في الجوهر الجسماني، وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق، وهو الذي لا قوه فيه أصلا: لا في الجوهر، ولا في غير ذلك من أنواع الحركات. وما هكذا فليس بجسم. مثال ذلك أن الجرم السماوي قد يظهر من أمره أنه واجب الوجود في الجوهر الجسماني، وإلا لزم أن يكون هنالك جسم أقدم منه، وظهر منه أنه [ ص: 233 ] ممكن الوجود في الحركة التي في المكان، فوجب أن يكون المحرك له واجب الوجود في الجوهر، وألا يكون فيه أصلا: لا على حركة، ولا على غيرها، فلا يوصف بحركة ولا سكون، ولا يغير ذلك من أنواع التغيرات. وما هو بهذه الصفة فليس بجسم أصلا، ولا قوة في جسم، وأجزاء العالم الأزلية إنما هي واجبة الوجود في الجوهر: إما في الكلية كالحال في الاسطقسات الأربع، وإما بالشخص كالحال في الأجرام السماوية) .
قلت: المقصود ذكر طرق هؤلاء، ومنتهى نظرهم ومعرفتهم، وأن خيار ما في كلام وأمثاله، إنما تلقاه من طرق المتكلمين، ابن سينا كالمعتزلة ونحوهم مع ما فيهم من البدعة. وأما ما ذكره هذا من طريقة الفقهاء، فهي أضعف وأقل فائدة في العلوم الإلهية من طريقة بكثير، فإن ابن سينا أدخل الفلسفة من المعارف الإلهية التي ركبها من طرق ابن سينا المتكلمين، وطرق الفلاسفة والصوفية. ما كسا به الفلسفة بهجة ورونقا، حتى نفقت على كثير من أهل الملل، بخلاف فلسفة القدماء، فإن فيها من التقصير والجهل في العلوم الإلهية ما لا يخفى على أحد.
وإنما كلام القوم وعلمهم في العلوم الرياضية والطبيعية، وكل فاضل يعلم أن كلام أرسطو وأمثاله في الإلهيات قليل نزر جدا، قليل [ ص: 234 ] الفائدة إذا كان صحيحا، مع أنه لا يوصل إليه إلا بتعب كثير، مع أنه يقول: هذا غاية فلسفتنا ونهاية حكمتنا.
وهو كما قيل: لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل.
وهذا الذي ذكره في إثبات واجب الوجود، مضمونه: أن الممكن الوجود، هو في اصطلاحه الذي ذكره عن القدماء: المحدث بعد عدم، يجب أن يتقدمه واجب الوجود، وهو القديم الذي لم يسبقه عدم. ابن رشد
وهذا هو بعينه قول المتكلم: إن المحدث مفتقر إلى قديم.
ثم قال: (وواجب الوجود في الجوهر الجسماني يجب أن يتقدمه واجب الوجود بإطلاق، وهو الذي لا قوة فيه أصلا، وليس بجسم) . وهذا لم يذكر عليه دليلا صحيحا.