وقوله: (إن الفلك يظهر من أمره أنه واجب الوجود) أي: قديم في جوهره، (وأنه ممكن الوجود في الحركة) هو قول الفلاسفة الدهرية، الذي يقولون: إن الأفلاك قديمة وحركتها دائمة.
وهذا لا دليل له أصلا، بل جميع ما يذكرونه من الأدلة في [ ص: 235 ] قدم العالم لا يدل شيء منها على قدم الأفلاك، بل غاية ما يدل على أن الله لم يزل فاعلا، وأنه لا بد قبل الأفلاك من شيء آخر موجود، ونحو ذلك مما لا يدل على قدم الأفلاك.
ثم إذا قدر ثبوت ذلك فقوله: يجب أن يكون المحرك للفلك واجب الوجود في الجوهر، وألا يكون فيه قوة أصلا لا على حركة ولا غيرها، فلا يكون جسما، أي: لا يقوم له فعل من الأفعال - دعوى مجردة.
ثم لو قدر أنه لا يقوم به فعل، فلم قال: إن ما لا يقوم به فعل لا يكون جسما؟ يقال: غاية ما ذكره أن يكون ما قاله ممكنا. فيقال: كما أنه يمكن ذلك فيمكن نقيضه. فإنه كما يجوز أن يكون المحرك له غير متحرك. فالمحرك المتحرك أولى بالجواز والإمكان.
ثم يقال: بل ما ذكرته هو على نقيض قولكم أدل منه على قولكم، وذلك لأن الفلك إذا كان دائم الحركة - وقد قررت أن المحرك له غيره - فالمحرك له إما أن يكون متحركا وإما أن لا يكون. فإن لم يكن متحركا كان محركا لغيره بدون حركة فيه.
وهذا إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا. فإن كان ممكنا بطل مذهبهم، وإن أمكن فالفلك نفسه: إما أن يكون واجبا بنفسه، وإما أن يكون ممكنا، فإن كان واجبا بنفسه وحركته ممكنة، وهو محتاج في حركته [ ص: 236 ] إلى محرك منفصل، كان واجب الوجود بنفسه جسما متحركا بحركة تقوم به، يفتقر فيها إلى غيره.
وحينئذ فيمكن أن يقال: المحرك للفلك هو أيضا جسم متحرك بحركة فيه، سواء احتاج فيها إلى غيره أو لم يحتج. وإذا لم يحتج إلى غيره كان أولى. وإن قيل: إن الفلك ممكن الوجود، فلا بد له من الواجب، فيكون الواجب علة موجبة له. فلا بد أن يكون علة تامة في الأزل له؛ لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن كذلك.
والعلة التامة لا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها، فإن كان علة تامة لحركة الفلك لزم وجودها في الأزل، وهو ممتنع. وإن لم يكن علة تامة له، لم يكن بد من أمر يتجدد يصير به علة تامة لحدوث ما يحدث من الحركة. وذلك المتجدد إن كان منه فقد بطل قولهم، وإن كان من الممكن كان قولهم أبطل وأبطل، فإن ما من الممكن لا بد أن يكون له من الواجب، إذ لا شيء له من نفسه.
وهذا يصلح أن يكون حجة في أول هذه المسألة، وهو أن الحركة الدائمة في الفلك، إذا كانت صادرة عن موجب، فالموجب لها: إن كان علة تامة لها في الأزل لم يتأخر عنها شيء من معلولها، وإن لم تكن تامة في الأزل صار موجبا بعد أن لم يكن.
وذلك التمام: إن كان له من نفسه كان متحركا، وهو خلاف ما زعموه، وإن كان من غيره كان واجب الوجود بنفسه، مفتقرا في تمام فعله إلى غيره. [ ص: 237 ]
وهذا أعظم عليهم: وهو أن يكون متحركا بحركة من غيره. وإذا قيل: نقول في صدور الفعل الدائم الذي في الفلك عن الواجب ما يقال لو كان ذلك الفعل في الواجب.
قيل: الفعل إذا كان قائما في الواجب بنفسه، لم يكن على هذا القول يمتنع أن تقوم به الأفعال التي تتعلق بمشيئته وقدرته، ولا يكون مفتقرا في شيء من ذلك إلى شيء من مخلوقاته، بل كل ما سواه فقير إليه. وأما على قولهم: فهم يقولون: إنه يمتنع أن يقوم بالمبدأ الأول شيء من الأفعال، ويقولون: إن الفعل الدائم القائم بالفلك صادر عنه شيئا بعد شيء.
فيقال لهم: الفلك إن كان واجبا بنفسه، فقد قام بالواجب بنفسه حركات شيئا بعد شيء، فامتنع أن يقولوا: إن الواجب بنفسه لا تقوم به الأفعال. وإن كان الفلك ليس واجبا بنفسه، بل ممكن بنفسه، فهو صادر عن الأول: ذاته وصفاته وأفعاله.
فإذا قدر قديما لزم أن يكون المقتضى التام له قديما، والفلك الممكن قابل للحركة شيئا بعد شيء، فلا بد له من واجب، والحركة ممكنة لا واجبة بنفسها، فلا بد لها من فاعل يفعلها شيئا بعد شيء، فإذا قدر الفاعل الفلك، ففاعلية الفلك ممكنة، فإذا حدثت شيئا بعد شيء لم يكن [ ص: 238 ] لها بد من فاعل. وحدوث الحوادث شيئا بعد شيء عن علة تامة في الأزل لا يتأخر عنها شيء من موجبها ممتنع، فوجب أن يكون الموجب لحدوث تلك الحوادث أمرا يتعلق بالواجب، وذلك من لوازم الواجب، لا يفتقر إلى غير الواجب، وما منه بخلاف ما يقوم بالممكن، فإن الممكن نفسه مفتقر إلى غيره، فما فيه أولى أن يفتقر إلى غيره.
وهذا قد بسط في موضع آخر، وبين أنهم يلزمهم التناقض وفساد قولهم، سواء قدر الفلك واجبا بنفسه، أو قدر ممكنا واجبا بغيره.