وأيضا فإن وقوله: إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا [الشورى: 51] دليل على أن القسم الأول هو الوحي الذي يوحيه إلى قلوب الأنبياء بخلاف التكليم من وراء حجاب، فإنه يكون بصوت مسموع، كما خاطب موسى عليه السلام، فمن سوى بين تكليم الوحي وتكليمه من وراء حجاب فجعل الجميع [ ص: 267 ] بصوت حتى جعل الأول تقترن به الرؤية فهو بمنزلة من سوى بينهما حتى جعل الجميع بلا صوت، وأيضا فإن تكليمه وحيا دون تكليمه لموسى عليه السلام من وراء حجاب كما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، فلو كان ذلك معاينة لكان أرفع منه، وهذا لم يقله أحد من السلف، ومن زعم ذلك من أهل الإثبات فهو نظير من زعم ذلك من الجهمية الاتحادية وغيرهم ممن يزعم أن الله تعالى يخاطبهم وحيا في قلوبهم أعظم مما خاطب موسى بن عمران من وراء حجاب الحروف والأصوات والشجرة ونحو ذلك، وكل هذا باطل وتحريف، احتجت بهذه الآية على منع وعائشة محمد ربه ولم يقل [ ص: 268 ] لها أحد: إن الآية تثبت رؤية رؤية محمد بل احتاجوا إلى الجواب.
ثم قال القاضي: ويدل عليه قوله تعالى: فأوحى إلى عبده ما أوحى [النجم: 10] أي كلمه بما كلمه بلا واسطة ولا ترجمان ما كذب الفؤاد ما رأى [النجم: 11] فالظاهر يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الله تعالى بعيني رأسه ليلة المعراج عند سدرة المنتهى لم يكذب فؤاده ما رآه بعيني رأسه.
وهذا قد احتج به غير القاضي، لكن يقال: قوله: ما كذب الفؤاد ما رأى [النجم: 11] لم يذكر المرئي، وقد قال بعده: لقد رأى من آيات ربه الكبرى [النجم: 18] وحديث ابن مسعود في الصحيحين يخبر فيه برؤية وعائشة جبريل. قال القاضي: ويدل عليه ما حدثناه أبو القاسم عبد العزيز [ ص: 269 ] حدثنا علي بن عمر بن علي أبو الحسن التمار، حدثنا أبو بكر عمر بن أحمد بن أبي معمر الصفار، حدثنا يوسف بن أحمد بن حرب بن الحكم الأشعري البصري، حدثنا عن روح بن عبادة، عن ابن جريج، أبي الزبير، عن قال: جابر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ولقد رآه نزلة أخرى قال: «رأيت ربي عز وجل مشافهة لا شك فيه» وفي قوله: عند سدرة المنتهى قال: «رأيته عند سدرة المنتهى حتى تبين له نور وجهه».
قلت: هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله [ ص: 270 ] صلى الله عليه وسلم بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث، والقاضي لم يعلم أنه موضوع، ورواه له فيما خرجه في الصفات، أبو القاسم الأزجي وأبو القاسم ثقة لكن الكذب فيه ممن فوقه، ولم يحدث بهذا ولا روح بن عبادة أصلا، وأهل الحديث يعلمون ذلك، ولا يصلح أن يكون هذا اللفظ من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن المشافهة إنما تقال في المخاطبة لا في الرؤية، فيقال: يخاطبه مشافهة، كما قال من قال من السلف: «كلم أبو الزبير موسى تكليما، أي مشافهة» لا يقال: في الرؤية مشافهة، فإن المشافهة في الأصل مفاعلة من الشفة التي هي فينا محل الكلام، وأما الرؤية فيقال فيها: مواجهة ومعاينة، فيشتق لها من الوجه والعين الذي تكون به الرؤية، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة في تفسير هذه الآية غير هذا، ففي صحيح وابن مسعود عن مسلم قال: مسروق [ ص: 271 ] رضي الله عنها فقالت: «يا عائشة أبا عائشة! ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن: قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: ولقد رآه نزلة أخرى [النجم: 13] فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هو جبريل، لم يره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رآه منهبطا من السماء، عظم خلقه ما بين السماء والأرض» الحديث. كنت متكئا عند
وفي الصحيحين عن في عبد الله بن مسعود لقد رأى من آيات ربه الكبرى [النجم: 18] قال: رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح. قوله:
[ ص: 272 ] ثم قال القاضي: وروى عن أبو بكر الخلال، عكرمة، عن في ابن عباس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس [الإسراء: 60] قال: «وهي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به». قوله:
وهذا الحديث صحيح، رواه وغيره، كما تقدم، لكنه لا يدل على البخاري ولهذا لم يذكره رؤية الرب تعالى؛ في أحاديث رؤية الخلال محمد ربه، إنما ذكره قبل ذلك في أحاديث الإسراء، فإنه قال: «تفريع ما ردت الجهمية الضلال من فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، من فضائل ذكر الإسراء والرؤية وغير ذلك، ثم قال: ذكر الإسراء، أخبرنا قال: قلت المروذي لأبي عبد الله، فحكى عن موسى بن عقبة أنه قال: إن أحاديث الإسراء منام، فقال أبو عبد الله: هذا كلام الجهمية، وجمع أحاديث [ ص: 273 ] الإسراء وأعطانيها، وقال: منام الأنبياء وحي» وقرأ عليه سفيان: قال عمرو: سمعت عبيد بن عمير يقول: رؤيا الأنبياء وحي، قال: وأخبرني حمدويه الهمداني، حدثنا محمد بن أبي عبد الله الهمداني، حدثنا أبو بكر بن موسى، عن يعقوب بن بختان قال: سألت -يعني أبا عبد الله- عن [ ص: 274 ] المعراج فقال: «رؤيا الأنبياء وحي».
قال: وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله وسألته فقال: «الجنة والنار قد خلقتا» وفي هذا حجة أن رؤيا الأنبياء في الأحلام رأي العين، وليس حلمهم كسائر الأحلام.