قال: «وادعى المعارض أيضا أن الله تعالى لا يوصف بالضمير، والضمير منفي عن الله، وليس هذا من كلام المعارض، وهي كلمة خبيثة قديمة من كلام جهم، عارض جهم بها قول الله تعالى: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [المائدة: 116] يدفع بذلك أن يكون الله سبق له علم في نفسه بشيء من الخلق وأعمالهم قبل أن يخلقهم، فتلطف بذكر الضمير ليكون أستر له عند الجهال».
فرد على بعض العلماء قوله هذا، وقال له: «كفرت بها يا عدو الله من ثلاثة أوجه: جهم
أنك نفيت عن الله العلم السابق في نفسه قبل حدوث الخلق وأعمالهم.
والوجه الثاني: أنك استجهلت المسيح صلى الله عليه وسلم أنه وصف ربه بما لا يوصف به بأن له خفايا علم في نفسه؛ إذ يقول له: ولا أعلم ما في نفسك [المائدة: 116].
[ ص: 438 ] والوجه الثالث: أنك طعنت به على محمد صلى الله عليه وسلم إذ جاء به مصدقا بعيسى، فأفحم جهما».
قال: لا يوصف الله بالضمير جهم: يقول: لم يعلم الله في نفسه شيئا من الخلق قبل حدوثهم، وحدوث أعمالهم، وهذا أصل كبير في تعطيل النفس والعلم السابق، والناقض عليه بذلك قول الله تعالى: «وقول تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [المائدة: 116] فذكر المسيح أن لله علما سابقا في نفسه يعلمه الله ولا يعلمه هو، وقال الله: واصطنعتك لنفسي [طه: 41] كتب ربكم على نفسه الرحمة [الأنعام: 54] ويحذركم الله نفسه [آل عمران: 28 - 30] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله الخلق كتب في كتابه بيده على نفسه: إن رحمتي تغلب غضبي».
[ ص: 439 ] وأسند حديث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة «قال الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه».
[ ص: 440 ] قال: فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يخفي ذكر العبد في نفسه إذا أخفى ذكره ويعلنه إذا أعلن هو ذكره، ففرق بين علم الظاهر والباطن والجهر والخفي، فإذا اجتمع قول الله وقول الرسولين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم فمن يكترث لقول جهم وأصحابهما، فنفس الله هو الله، والنفس تجمع الصفات كلها، فإذا نفيت النفس نفيت الصفات، وإذا نفيت الصفات كان لا شيء. والمريسي
قال: وحدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان، عن سمعت زيد بن جبير، أبا البختري قال: «لا يقولن [ ص: 441 ] أحدكم: اللهم أدخلني مستقر رحمتك فإن مستقر رحمته نفسه».
قال: فقد أخبر أبو البختري أن رحمة الله في نفسه، وكذلك قال الله تعالى: إن الساعة آتية أكاد أخفيها [طه: 15] فحدثنا ابن نمير، حدثنا محمد بن عبيد، عن عن إسماعيل بن أبي خالد، أبي صالح الحنفي أكاد أخفيها [ ص: 442 ] قال: «من نفسي، فأي مسلم سمع بما أخبر الله به عن نفسه في كتابه وما أخبر عنه الرسول ثم يلتفت إلى أقاويلهم إلا كل شقي غوي؟!».
إلى أن قال: «ونحن قد عرفنا بحمد الله تعالى من لغات العرب هذه المجازات التي اتخذتموها دلسة وأغلوطة على الجهال تنفون بها عن الله حقائق الصفات بعلل المجازات، غير أنا نقول: لا نحكم للأغرب من كلام العرب على الأغلب، لكن تصرف معانيها إلى الأغلب من كلام العرب، حتى يأتوا ببرهان أنه عني بها الأغرب، وهذا هو [ ص: 443 ] المذهب الذي هو إلى الإنصاف والعدل أقرب لا أن تعترض صفات الله المعروفة المقبولة عند أهل البصر، فتصرف معانيها بعلة المجازات إلى ما هو أنكر، ويرد على الله بداحض الحجج، وبالتي هي أعوج، وكذلك ظاهر القرآن وجميع ألفاظ الروايات تصرف معانيها إلى العموم، حتى يأتي متأول ببرهان يبين أنها أريد بها الخصوص؛ لأن الله تعالى قال: وهذا لسان عربي مبين [النحل: 103] فأثبته عند العلماء أعمه وأشد استفاضة عند العرب، فمن أدخل منها الخاص على العام كان من الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فهو يريد أن يتبع فيها غير سبيل المؤمنين.