فصل :
فإذا تقرر أنهم لا يتبعون بعد انهزامهم فلا فرق بين المنهزم إلى غير دار يرجع إليها ، وإلى غير إمام يعود إلى طاعته ، وبين المنهزم إلى دار وإمام .
وقال أبو حنيفة : لا يتبع ، ويتبع المنهزم إلى غير دار وإمام ويقتل إن ظفر به ؛ احتجاجا بأن المنهزم إلى دار وإمام عليا لم يتبع من انهزم من أهل الجمل : لأنهم انهزموا إلى غير دار وإمام ، واتبع من انهزم يوم صفين : لأنهم رجعوا إلى دار وإمام .
حتى روي أنه اتبع مدبرا ليقتله فكشف عن سوأته فكف علي طرفه ، ورجع عنه .
قال : ولأن الانهزام مع بقاء الدار والإمام لا يكون رجوعا عن البغي ، ولا مانعا من العود .
ودليلنا : ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه أتي بأسير يوم صفين ، فقال له الأسير : أتقتلني صبرا . فقال : لا إني أخاف الله رب العالمين ، وخلى سبيله . [ ص: 117 ] قال الشافعي : والحرب يومئذ قائمة ، ومعاوية يقاتل جادا في أيامه كلها مستعليا أو منتصفا .
يعني : مستعليا بكثرة جيشه ، أو منتصفا بمساواة الجيش .
وأتي معاوية بأسير يوم صفين فأمر بقتله ، فقال الأسير : والله ما تقتلني لله ولا فيه ، ولكن لحطام هذه الدنيا ، فإن عفوت فصنع الله بك ما هو أهله ، وإن قتلت فصنع الله بك ما أنت أهله . فقال له معاوية : لقد سببت فأحسنت . وخلى سبيله .
ولأن الإمام مأمور بالقتال لا بالقتل ، والمولي غير مقاتل فلم يجز أن يقتل .
ولأن المراد بالقتال الكف ، والمولي كاف فلم يجز أن يتبع .
فأما احتجاجه بندائه يوم الجمل دون صفين فعنه جوابان :
أحدهما : أنه أمر بالنداء في اليومين معا ، أن لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح .
والثاني : أنه - وإن فرق بين اليومين في النداء - فلأن الحرب انجلت يوم الجمل ، فتفرغ للنداء ، وكانت يوم صفين باقية فتشاغل بتدبير الحرب عن النداء .
وأما طلبه للأسير ، فقد كان ذلك عند اختلاط الصفوف وبقاء القتال .
واحتجاجهم بجواز عوده فلا معنى لتعليق الحكم بعلة لم تكن ، ويجوز أن لا تكون . والله أعلم .