الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " فإن قذف نفرا بكلمة واحدة ، كان لكل واحد منهم حده " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قذف الواحد للجماعة ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يفرد كل واحد منهم بالقذف فيقذفه بكلمة مفردة ، فلا تتداخل حدودهم ، ويحد لكل واحد منهم حدا مفردا .

                                                                                                                                            [ ص: 257 ] والضرب الثاني : يجمعهم في القذف بكلمة واحدة فيقول : زنيتم ، أو أنتم زناة . ففيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : - وبه قال في القديم - أنه تتداخل حدودهم ، ويحد لجميعهم حدا واحدا ، اعتبارا بكلمة القذف أنها واحدة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : - وبه قال في الجديد - أن حدودهم لا تتداخل ، ويحد لكل واحد منهم حدا منفردا اعتبارا بهم .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : تتداخل حدود جماعتهم ، ويحد لجميعهم حدا واحدا ، سواء جمعهم في القذف بكلمة واحدة أو أفردهم وقذف كل واحد منهم بكلمة مفردة : احتجاجا بقول الله تعالى : والذين يرمون المحصنات [ النور : 4 ] ، الآية فجعل لكل المحصنات حدا واحدا .

                                                                                                                                            وبما روي أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن السمحاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : البينة وحدا ، أو حد في ظهرك فقذف اثنين أوجب عليه حدا .

                                                                                                                                            ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا حدا واحدا ، وقد صاروا قذفة له وللمرأة .

                                                                                                                                            ولأن فعل الزنا أغلظ من القذف به ، ثم كان الزنا إذا تكرر في جماعة تداخلت حدود ، فكان القذف به أولى أن تتداخل حدوده .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا : أنها حدود من جنس واحد فوجب أن تتداخل كالزنا ، ولأنه لما تداخل القذف إذا تكرر في واحد وجب أن يتداخل إذا تكرر في جماعة ، ولأنها حدود تتداخل في الزنا ، فوجب أن تتداخل في القذف كالمتكرر في الشخص الواحد .

                                                                                                                                            ودليلنا هو أن القذف موجب للحد في الأجانب واللعان في الزوجات ، فلما لم يتداخل اللعان في الزوجات وأفرد كل واحد منهن بلعان لم تتداخل الحدود في الأجانب ، وانفرد كل واحد منهم بحد .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا : أنه أحد موجبي القذف ، فوجب أن لا يتداخل في حقوق الجماعة كاللعان ، ولأنه لو حقق قذفه الجماعة ببينة أو إقرار لزم كل واحد منهم حد كامل وجب إذا تحقق قذفه أن يحد لكل واحد منهم حدا كاملا : لأن حد القذف مقابل كحد الزنا عليهم .

                                                                                                                                            ويتحرر منه قياسان : أحدهما : أنه أحد حالتي القذف ، فوجب أن لا يتداخل موجبه كما لو تحقق .

                                                                                                                                            والثاني : أن كل مقذوف لو تحقق قذفه ، لم يتداخل الحد عليه وجب إذا لم يتحقق [ ص: 258 ] أن لا يتداخل له ، كقذف الواحد لواحد ، ولأن هذا مبني على أصلنا في حد القذف من حقوق الآدميين على ما سندل عليه من بعد . فنقول عند ثبوته : إن كل حق لآدمي إذا لم يتداخل في وجوبه للواحد على الجماعة لم يتداخل في وجوبه للجماعة على الواحد كالقصاص ، وفيه احتراز من آجال الديون : لأنها تتداخل في حق الواحد والجماعة .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الآية : فهو أنها دليلنا : لأنه أوجب للجماعة على الجماعة ثمانين جلدة ، فلما كان المراد بها كل واحد من القاذفين ، دل على أن المراد بها كل واحد من المقذوفين .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث هلال بن أمية ، فمن ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن قوله : " حد في ظهرك " إشارة إلى الحبس ولا يمتنع أن يجب فيه حدان .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أوجب الحد لمن طالب به ، ولم يخص شريك بن السحماء مطالبا فيوجب له الحد .

                                                                                                                                            والثالث : ما حكي أن شريك بن السحماء كان يهوديا ولا حد في قذف اليهودي .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث عمر في حده الشهود على المغيرة فمن ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنهم لم يعينوا المزني بها ، فيجب الحد بقذفها .

                                                                                                                                            والثاني : أنها لم تطالب به فيحدون لها .

                                                                                                                                            والثالث : أنه فعل واحد فلم يجب في القذف به إلا حد واحد على أحد القولين .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على حد الزنا : فهو أنه حد من حقوق الله تعالى الموضوعة على المساهلة ، وإدرائها بالشبهة ، وحد القذف من حقوق الآدميين التي تدخلها المضايقة والمشاحنة ، ولا تدرأ بالشبهة ، فكان افتراقها في التغليظ موجبا لافتراقها في التداخل .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن اعتبار تكرار القذف للجماعة بتكراره في الواحد ، فهو فساد ، موضوعه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لما تداخل لعانه إذا تكرر في الزوجة الواحدة ، ولم يتداخل إذا تكرر في الزوجات ، كذلك القذف .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما كان تكرار الوطء في النكاح الفاسد يوجب تداخل المهر في المنكوحة الواحدة ، ولا يوجب تدخله في مهور الجماعة ، لم يجز أن يعتبر ما تكرر في الواحد بما تكرر في الجماعة .

                                                                                                                                            [ ص: 259 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية