مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " " . وأي كفر ارتد إليه مما يظهر أو يسر من الزندقة ، ثم تاب لم يقتل
قال الماوردي : وهذا صحيح .
لا يخلو حال الكفر إذا ارتد إليه المسلم من أحد أمرين :
إما أن يتظاهر به أهله كاليهودية والنصرانية .
أو يسرونه كالزندقة والنفاق .
فإن كان مما يتظاهر به أهله ، قبلت توبته منه إذا ارتد إليه ، سواء ولد على الإسلام أو كان كافرا وأسلم .
وحكى الشافعي عن بعض أهل المدينة - وأحسبه مالكا - أن المولود على الإسلام لا تقبل توبته إذا ارتد : لأنه لم يجر عليه حكم الكفر بحال ، فكان أغلظ حكما ممن جرى عليه حكم الكفر في بعض الأحوال ، وهذا فاسد .
ولكنه لو وقع بينهما فرق - أولى : لأن توبة المولود على الإسلام أقوى : لأنه قد [ ص: 152 ] ألف الإسلام ، وتوبة المولود على الكفر أضعف : لأنه قد ألف الكفر ، فلما فسد هذا ، كان عكسه أفسد .
ودلائل هذا تأتي فيما يليه .
وإن كان الكفر مما يسره أهله كالزندقة : قبلت توبته أيضا عند الشافعي ، تسوية بين ردة كل مسلم ، وبين الردة إلى كل كفر . وقال مالك : لا تقبل ، إلا أن يتوب قبل العلم به والقدرة عليه . التوبة من الزنديق
ففرق بين بعض الكفر وبعضه في الردة ، كما فرق في الأول - إن كان قائلا به - بين بعض المسلمين وبعضهم في الردة .
والزنديق عنده : من أظهر الإسلام وأسر الكفر .
ولأبي حنيفة فيه روايتان :
إحداهما : كقولنا .
والأخرى : كقول مالك .
احتجاجا بقول الله تعالى : إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم [ آل عمران : 90 ] .
ولأن الزنديق يتظاهر بالإسلام ويسر الكفر ، وهو بعد التوبة هكذا ، فصار كما قبلها ، فلم تؤثر فيه التوبة مما لم يكن ، فوجب أن يكون الحكم فيهما على سواء .
قال : ولأن : لجمعها بين فساد الدين والدنيا ، فلما لم تقبل توبة المحاربين بعد القدرة ، فأولى أن لا تقبل الزندقة أعظم فسادا في الأرض من الحرابة بعد القدرة . توبة الزنديق
قال : ولأن الظاهر من توبة الزنديق أنه يستدفع بها القتل ، كما كان الظاهر من توبة المحارب استدفاع القتل بها ، فوجب أن تحمل توبته على الظاهر من حالها في دفع القتل بها ، كما حملت توبة المحارب على الظاهر من حالها .
ودليلنا : قول الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا [ النساء : 94 ] ، [ ص: 153 ] وقرأ أبو جعفر : لست مؤمنا بفتح الميم ، من الأمان .
وقراءة الجمهور بالكسر من الإيمان .
وفيها على كلا القراءتين دليل لما حكاه السدي عن سبب نزولها :
أن رجلا يقال له : مرداس بن عمر الفدكي كانت له غنيمات ، لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم : السلام عليكم ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . فبدر إليه أسامة بن زيد فقتله ، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له : لم قتلته وقد أسلم ؟
قال : إنما قالها متعوذا .
قاله : هلا شققت عن قلبه .
ثم حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ، ورد عليهم غنمه .
وروى عطاء بن يزيد الليثي ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار
قال : أليس يصلي ؟
قال : بلى ، ولا صلاة له .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أولئك الذين نهاني الله عنهم . أن رجلا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يدر ما ساره ، حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أليس يشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال : بلى ، ولا شهادة له .
وروى عبيد الله بن عدي بن الخيار ، أن المقداد بن عمرو الكندي قال :
قال : لا تقتله ، فإن قتلته فإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته ، وهو بمنزلتك قبل أن تقتله . يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني ، فضرب إحدى يدي فقطعها ، ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله ، أقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟
فدلت الآية والخبران على ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأخذ بالظاهر دون السرائر إنما أحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر [ ص: 154 ] ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبل من المنافقين ظاهر إسلامهم ، وإن تحقق باطن كفرهم ، بما أطلعه الله تعالى عليه من سرائرهم في قوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة [ المنافقون : 1 - 2 ] . وقرئ : إيمانهم بكسر الهمزة ، من الإيمان ، والأول من اليمين .
وقال تعالى : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون [ التوبة : 56 ] .
فلم يؤاخذهم بما أطلعه الله تعالى عليه من سرائرهم التي تحقق بها كفرهم ، واعتبر ما تظاهروا به من الإسلام وإن تحقق فيه كذبهم ، فوجب أن يكون أمثالهم من الزنادقة ملحقين بهم وداخلين في حكمهم .
فإن قيل : إنما كف عنهم : لأنه لم يعرفهم بأعيانهم ، ولو عرفهم لما كف عنهم .
قيل : قد كانوا أشهر من أن يخفوا ، هذا عبد الله بن أبي ابن سلول وهو رأس المنافقين ، قد تظاهر بالنفاق وأبدى معتقده في مواضع منها :
قوله تعالى : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا [ الأحزاب : 12 ] .
لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل [ المنافقون : 18 ] .
فأخبر الله تعالى بذلك عنه ، فلما رجع إليها من الغزاة جرد ابنه عليه سيفه ، وقال : والله لئن لم تقل إنك الأذل ورسول الله الأعز ، لأضربنك بسيفي هذا . فقالها . وقوله في غزوة تبوك :
ولأن إقراره بالزندقة أقوى من قيام البينة بها عليه ، فلما قبلت توبته إذا أقر بها ، كان أولى أن تقبل في قيام البينة بها .
ولأنه لو جاز أن يختلف حكم التوبة في جهر الكفر وسره ، لكان قبول توبة المساتر أولى من قبول توبة المجاهر : لأن الجهر به يدل على قوة معتقده ، والاستسرار به يدل على ضعف معتقده ، فلما بطل هذا كان علته أبطل ، ولأنها توبة من كفر ، فوجب أن تقبل كالجهر .
فأما الجواب عن قوله : ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم [ آل عمران : 190 ] . فهو أنه قد تعارض فيها ما يتنافى اجتماعهما : لأن من ازداد كفرا لم يتب ، ومن [ ص: 155 ] تاب لم يزدد كفرا ، وإذا تنافى ظاهرهما صار تأويلها محمولا على تقدم التوبة على ما حدث بعدها من زيادة الكفر ، فيحبط حادث الكفر سابق التوبة .
وأما الجواب عن قوله : إنه بالتوبة مظهر للإسلام مستبطن للكفر ، وهكذا هو قبلها .
فهو أننا ما كلفنا منه إلا الظاهر من حاله ، وهو في الباطن موكول إلى ربه ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسبوا العبد حساب الرب .
وقد يجوز أن تؤثر التوبة في باطنه كتأثيرها في ظاهره .
وأما الجمع بينه وبين المحارب فلا يصح : لافتراقهما في معنى الحكم : لأن الحرابة يقتل فيها بظاهر فعله ، فلم تؤثر التوبة في رفعه ، والردة يقتل فيها بظاهر قوله الدال على معتقده ، فجاز أن يرفعها ما جانسها من القول في توبته ، ويحمل ذلك على زوال معتقده .
فأما الجواب عن قوله : إن الظاهر منها استدفاع القتل .
فهو أن هذا الظاهر لا يمنع من قبول التوبة في المرتد ، كما لا يمنع إسلام الحربي إذا قدم للقتل من قبول إسلامه ، والكف عن قتله ، والله أعلم .