فصل :
وأما البكر : فحده ، ويكون كل واحد منهما حدا ، فيجمع عليه بين حدين ، رجلا كان الزاني أو امرأة . جلد مائة وتغريب عام
وبه قال الأوزاعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وأحمد بن حنبل .
وقال أبو حنيفة : ليس عليه إلا حد واحد وهو الجلد ، فأما التغريب فهو تعزير غير مقدر يرجع فيه إلى رأي الإمام في فعله وتركه ، أو العدول إلى تعزيره .
وقال مالك : يجمع بينهما في حد الرجل ، ولا يجمع بينهما في حد المرأة ، وتجلد ولا تغرب : لأنها عورة .
واستدلوا على أن التغريب ليس بحد في الزنا ، بقول الله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور : 2 ] ، فكان الدليل فيه من وجهين :
أحدهما : أنه اقتصر في حدها على الجلد ، ولو وجب التغريب لقرنه به : لأن تأخير البيان عن وقته لا يجوز .
والثاني : أن وجوب التغريب زيادة على النص ، والزيادة على النص تكون نسخا ، ونسخ القرآن لا يجوز بأخبار الآحاد ، قالوا : ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منع من سفر المرأة إلا مع ذي محرم ، فإن غربت مع غير ذي محرم أسقطتم الخبر ، وإن غربت مع ذي محرم أوجبتم التغريب على من ليس بزان ، ولأنه سبب يوجب الحد فلم يجب به التغريب كالقذف وشرب الخمر ، ولأنه زنا يوجب عقوبة فلم يجمع فيه بين حدين كزنا الثيب .
ودليلنا : حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " . خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم
فإن قيل : لما كان ما اقترن برجم الثيب من الجلد منسوخا ، اقتضى أن يكون ما اقترن بجلد البكر من التغريب منسوخا . قيل : نسخ أحدهما لا يوجب نسخ الآخر : لأن النسخ يؤخذ من النص دون القياس ، وحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل : " " بعد قول الرجل : وسألت رجالا من أهل العلم ، فقالوا : على ابنك جلد مائة وتغريب عام . فصار هذا الخبر يجمع نصا ووفاقا ، ولأنه إجماع الصحابة . وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام
[ ص: 194 ] وروي أن أبا بكر رضي الله عنه جلد وغرب إلى فدك .
وجلد عمر وغرب إلى الشام . وجلد عثمان وغرب إلى مصر .
وجلد علي وغرب من الكوفة إلى البصرة ، وليس لهم في الصحابة مخالف .
فإن قيل : فقد قال عمر حين غرب : لا أنفي بعده أحدا .
وقال علي : كفى بالنفي فتنة . فدل على أنهم غربوا تعزيرا يجوز لهم تركه ، ولم يكن حدا محتوما . قيل : أما قول عمر لا أنفي بعده أحدا ، فإنما كان ذلك منه في شارب خمر نفاه فارتد ولحق بالروم ، والنفي في شرب الخمر تعزير يجوز تركه ، وهو في الزنا حد لا يجوز تركه .
وأما قول علي : " كفى بالنفي فتنة " . فيعني : عذابا ، كما قال الله تعالى : يوم هم على النار يفتنون [ الذاريات : 13 ] ، أي يعذبون . ولأن التغريب عقوبة تقدرت على الزاني شرعا ، فوجب أن يكون حدا كالجلد ، ولأن الزنا معصية توجب حدا أعلى وهو الرجم ، وأدنى وهو الجلد ، فوجب أن يقترن بأدناها غيرهما ، كالقتل يوجب أعلى وهو القود ، وأدنى وهو الدية ، واقترن بها الكفارة .
فأما الجواب عن الآية فمن وجهين :
أحدهما : أنها تضمنت كل ما وجب بالقرآن ، والتغريب واجب بالسنة دون القرآن .
والثاني : أن الزيادة على النص عندنا لا تكون نسخا ، ولو كانت نسخا لم تكن زيادة التغريب هاهنا نسخا : لأمرين :
أحدهما : أننا قد اتفقنا عليها وإن اختلفنا في حكمها ، فجعلوها تعزيرا وجعلناها حدا .
والثاني : أنها تكون نسخا إذا تأخرت ، والتغريب هاهنا تفسير لقوله : أو يجعل الله لهن سبيلا [ النساء : 15 ] ، فكان مقدما على قوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور : 2 ] ، فخرج عن حكم النسخ .
وأما الجواب عن تغريبها مع ذي المحرم فمن وجهين :
أحدهما : أنه لما لم يمنع ذلك من تغريبها تعزيرا لم يمنع من تغريبها حدا .
[ ص: 195 ] والثاني : أن المحرم شرط عندنا في مباح السفر دون واجبه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : محمولا على تطوع الصوم دون مفروضه ، وهذا واجب كالحج ، فلم يفتقر إلى ذي محرم . لا تصومن امرأة وزوجها حاضر إلا بإذنه
وأما الجواب عن قياسهم على حد القذف ، وشرب الخمر فمن وجهين :
أحدهما : أنه قياس يدفع النص ، فكان مطرحا .
والثاني : أنه لما لم يجز أن يغرب في غير الزنا تعزيرا ، وجاز في الزنا ، لم يمنع من وجوبه في الزنا حدا ، وإن لم يجب في غير الزنا .
وأما الجواب عن قياسهم على الثيب فمن وجهين :
أحدهما : أن حد الثيب أغلظ العقوبات ، فسقط به ما دونه .
والثاني : أن الرجم فيه قد منع من حد يتعقبه ، والجلد لا يمنع ، والله أعلم .