مسألة : قال الشافعي : " ولو أقر مرة حد : لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أنيسا أن يغدو على امرأة فإن اعترفت رجمها . وأمر عمر رضي الله عنه أبا واقد الليثي بمثل ذلك ، ولم يأمرا بعدد إقراره . وفي ذلك دليل أنه يجوز أن يقيم الإمام الحدود وإن لم يحضره " .
قال الماوردي : اختلف الفقهاء في على ثلاثة مذاهب : الإقرار الذي يجب به حد الزنا
أحدها : وهو مذهب الشافعي أنه يجب بإقراره مرة واحدة ، وهو قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
والثاني : وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه : أنه لا يجب إلا بإقرار أربع مرات في أربعة مجالس .
والثالث : وهو مذهب مالك وابن أبي ليلى : لا تجب إلا بإقرار أربع مرات سواء كان في مجلس أو في مجالس : احتجاجا في اعتبار الأربع برواية أبي حنيفة ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر بالزنا فرده ، ثم عاد فأقر بالزنا فرده ، ثم عاد فأقر بالزنا فرده ، ثم عاد رابعة فأقر بالزنا ، فسأل عنه قومه : هل تنكرون من عقله شيئا ؟ قالوا : لا . فأمر به فرجم في موضع قليل الحجارة ، فأبطأ عليه الموت ، فانطلق يسعى إلى موضع كثير الحجارة فرجموه [ ص: 207 ] حتى قتل فلما أمر برجمه في الرابعة دون ما تقدمها دل على أنها هي الموجبة لرجمه ، وأن الأربع كلها شروط فيه . جاء
وروى عامر بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قال : ماعز بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس عنده ، حتى جلس بين يديه فأقر عنده بالزنا ، فأمر بطرده حتى لم ير ، ثم عاد فجلس بين يديه فأقر عنده بالزنا ، فأمر بطرده حتى لم ير ، ثم عاد فجلس بين يديه فأقر عنده بالزنا ، فأمر بطرده حتى لم ير ، ثم عاد الرابعة ، قال : فنهضت إليه فقلت : يا هذا إنك إن أقررت عنده الرابعة رجمك ، قال : فجاء حتى جلس بين يديه فأقر عنده بالزنا فأمر برجمه . أقبل
قالوا : فقد صرح أبو بكر رضي الله عنه بمشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الرابعة هي الموجبة لرجمه فأقره ، فصار كقوله .
قالوا : ولأنه سبب يثبت حد الزنا فوجب أن يكون العدد من شرطه كالشهادة ، ولأن الزنا لما غلظ بزيادة الشهادة على سائر الشهادات ، وجب أن يغلظ بزيادة الإقرار على سائر الإقرارات .
ودليلنا : حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أنيس اغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " ، ولم يوقت له في اعترافها أربعا ، فغدا إليها فاعترفت فرجمها ، ولم ينقل أنها اعترفت أربعا ، فدل على ثبوته باعتراف المرأة الواحدة : لأنه لا يجوز أن يؤخر بيانه عن وقت الحاجة ولا يبيح رجمها بغير استحقاق . يا
ولأنه قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا مخالف لهما في الصحابة فكان إجماعا .
أما أبو بكر فأقر رجل بكر عنده بالزنا فجلده مائة وغربه عاما .
وأما عمر فإن رجلا أتاه فقال : إن امرأتي زنت فأنفذ أبا واقد الليثي إليها ، فقال لها : زوجك قد اعترف عليك بالزنا ، وإنك لا تؤاخذين بقوله : لتنزع ، فلم تنزع ، فأمر عمر برجمها .
ومن القياس : أن ما ثبت بالإقرار لم يعتبر فيه التكرار كسائر الحدود والحقوق ، ولأن ما لم يلزم فيه تكرار الإنكار لم يلزم فيه تكرار الإقرار كسائر الحدود ، ولأن رجلا لو قذف رجلا بالزنا ووجب عليه حد قذفه فاعترف المقذوف مرة واحدة صار كالمقر به أربعا في سقوط الحد عن قاذفه ، فوجب أن يصير كالأربع في وجوب الحد به : لأنه لا [ ص: 208 ] يجوز أن يصير في بعض الأحكام زانيا وفي بعضها غير زان ، ولأنه إقرار ثبت به حد القذف فوجب أن يثبت به حد الزنا كالأربع .
ولأن : حق الله سبحانه ، وحق للآدمي . وليس في واحد منهما ما يعتبر في الإقرار به التكرار ، فكان حد الزنا ملحقا بأحدهما ، ولم يجز أن يخرج عنهما . الحقوق ضربان
فأما الجواب عن حديث " ماعز " في إقراره أربعا ، فمن أربعة أوجه :
أحدها : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم توقف عن رجمه في المرة الأولى استثباتا لحاله واسترابة لجنونه : لأنه كان قصيرا أعضد أحمر العينين ناثر الشعر ، أقبل حاسرا فطرده تصورا لجنونه ، وأن العاقل لا يفضح نفسه ويتلفها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولذلك سأل قومه عن حاله ، وقال : من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله ، فإنه من يبد لنا صفحته نقم حد الله عليه أبه جنة ؟ وقال : استنكهوه . لأنه توهمه حين لم ير به جنة أن يكون سكران .
والثاني : أنه لو كان الأربع معتبرا لكان الأول مؤثرا ، ولما استجاز أن يطرده ، وقد تعلق به لله تعالى حق .
والثالث : أنه رجمه بعد أن استثبته في الخامسة ، وقال : " ؟ " قال : بل جامعتها ، قال : " لعلك قبلت لعلك لمست " قال : نعم . فأقر برجمه في الخامسة ، وليست شرطا بإجماع ، فكذلك ما تقدمها . أولجت ذكرك في فرجها ، كالمرود في المكحلة والرشا في البئر ؟
والرابع : أنه خبر خالف الأصول ، وخبر الواحد عندهم إذا خالف الأصول لم يعمل به ، وأما قول أبي بكر رضي الله عنه : " إنك إن أقررت الرابعة رجمك " فلأن حاله قد وضحت ، والاسترابة قد ارتفعت ، فصارت الرابعة هي الموجبة لزوال الاسترابة ، ولم تكن لاستكمال العدد : لأن أبا بكر رضي الله عنه قد جلد في أيامه ولم يعتبر عددا .
وأما الجواب عن قياسهم على الشهادة : فهو أن المعنى فيها أنه لما اعتبر فيها العدد في غير الزنا اعتبر في الزنا ، ولما لم يعتبر العدد في الإقرار بغير الزنا لم يعتبر في الإقرار بالزنا .
وأما الجواب عن استدلالهم بزيادة الشهادة فيه تغليظا : فهو أن الشهادة قد تختلف باختلاف الحقوق ، ولا توجب اختلاف الإقرار بها ، فكذلك في الزنا .