الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وأن عثمان بن عفان رضي الله عنه قطع سارقا في أترجة قومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار . قال مالك : هي الأترجة التي تؤكل . ( قال الشافعي ) : وفي ذلك دلالة على قطع من سرق الرطب من طعام وغيره إذا بلغت سرقته ربع دينار وأخرجها من حرزها " .

                                                                                                                                            [ ص: 274 ] قال الماوردي : وهذا كما قال : القطع يجب في جميع الأموال ، سواء كان مما يسرع إليه الفساد كالطعام الرطب ، أو لا يسرع إليه الفساد .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا قطع فيما يسرع إليه الفساد : استدلالا بما رواه مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن رافع بن خديج ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا قطع في ثمر ولا كثر وفي الكثر قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه الفسيل .

                                                                                                                                            والثاني : أنه جمار النخل .

                                                                                                                                            وروى الحسن البصري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا قطع في طعام .

                                                                                                                                            وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما كانت اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه .

                                                                                                                                            والتافه الحقير ، وما يسرع إليه الفساد حقير .

                                                                                                                                            ولأنه معرض للهلاك والتلف ، فلم تقطع فيه اليد كالذي ليس بمحرز .

                                                                                                                                            ودليلنا : رواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق فقال : من سرق منه بعد أن يئويه الجرين ، وبلغ ثمن المجن ففيه القطع فنفى عنه القطع قبل الجرين : لأنه غير محرز ، وعلق القطع به في الجرين : لأنه محرز .

                                                                                                                                            [ ص: 275 ] فإن قيل : إنما علق القطع به في الجرين : لأنه قد صار فيه يابسا مدخرا . فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يكون في الجرين رطبا ويابسا ولم يفرق .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أوجب القطع في الجرين عما نفاه عنه قبل الحرز ، وهو قبل الجرين رطب ، فكذلك في الجرين ، ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، روت عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقا سرق أترجة على عهد عثمان رضي الله عنه فقومت ثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار ، فأمر بقطعه . وليس له في الصحابة مخالف .

                                                                                                                                            ومن القياس : أنه نوع مال فوجب أن يستحق القطع بسرقته كسائر الأموال ، ولا ينتقض بالعبد : لأنه يقطع سارقه إذا سرقه وهو صغير أو كبير نائم ، ولأن ما قطع في يابسة قطع في رطبه كالغز والثياب ، وأن أبا حنيفة فرق بين رطب الفواكه ويابسها في وجوب القطع ، وسوى بين طري اللحم وقديده ، وطري السمك ومملوحه في سقوط القطع ، وهذا تناقض ، ولأن الطعام الرطب ألذ وأشهى ، والنفوس إلى تناوله أدعى فكان بالقطع أولى . فأما قوله : " لا قطع في ثمر ولا كثر " فلأنه غير محرز : لأن ثمارهم كانت بارزة ، ولذلك قال : " فإذا آواه الجرين ففيه القطع " .

                                                                                                                                            وحديث الحسن مرسل ، ويحمل - لو صح - على الطعام الرطب إذا كان في سنبله غير محرز كالثمر : لأن أبا حنيفة وافق على القطع في الحنطة إذا كانت محرزة .

                                                                                                                                            وخبر عائشة رضي الله عنها محمول على ما كان تافه المقدار : لقلته لا لجنسه : لأن الطعام الرطب ليس بحقير .

                                                                                                                                            وأما قولهم : إنه معرض للتلف ، ففيه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه معرض للاستعمال دون البذل ، كما يستعمل الطعام اليابس ، وليس قلة بقائه موجبا لسقوط القطع فيه ، كالشاة المريضة يجب القطع فيها وإن لم يطل بقاؤها .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قياس جمع فيه بين المحرز وغير المحرز وهما مفترقان في وجوب القطع : لأن الحرز شرط ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                            [ ص: 276 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية