الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما غير القدرية فقال أبو عمر بن عبد البر: اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافا كثيرا، وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة، فذكر ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه المشهور، قال: قال ابن المبارك: يفسره آخر الحديث: قوله -صلى الله عليه وسلم-: « الله أعلم بما كانوا عاملين» .

قال ابن عبد البر: هكذا ذكر عن ابن المبارك، لم يزد شيئا. [ ص: 380 ]

وذكر عن محمد بن الحسن أنه سأله عن تأويل هذا الحديث فقال: (كان هذا القول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يؤمر الناس بالجهاد) . هذا ما ذكره أبو عبيد.

قال ابن عبد البر: (أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحوه، وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح موعب في أمر الأطفال، ولكنها جملة تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر أو إيمان، أو جنة أو نار ما لم يبلغوا العمل) .

قال: (وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن، فأظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه: إما لإشكاله عليه، أو لجهله به، أو لما شاء الله. وأما قوله: إن ذلك كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يؤمر الناس بالجهاد، فلا أدري ما هذا. فإن كان أراد أن ذلك [ ص: 381 ] منسوخ، فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في أخبار الله تعالى وأخبار رسوله، لأن المخبر بشيء، كان أو يكون، إذا رجع عن ذلك، لم يخل رجوعه عن تكذيبه لنفسه، أو غلطة فيما أخبر به، أو نسيانه. وقد جل الله وعصم رسوله في الشريعة والرسالة منه. وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد له أدنى فهم، فقف عليه، فإنه أمر جسيم من أصول الدين.

وقول محمد بن الحسن: إن ذلك كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ليس كما قال، لأن في حديث الأسود بن سريع ما يبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد) .

وروى بإسناده (عن الحسن، عن الأسود بن سريع، قال: « قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان؟ فقال رجل: أوليس إنما هو أولاد المشركين؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أوليس خياركم أولاد المشركين؟ إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يبلغ فيعبر عنه لسانه، ويهوده أبواه أو ينصرانه» . [ ص: 382 ]

قال: وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة، منهم بكر المزني، والعلاء بن زياد، والسري بن يحيى. وقد روي عن الأحنف عن الأسود بن سريع، قال: وهو حديث بصري صحيح. قال: وروى عوف الأعرابي عن سمرة بن جندب، « عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: كل مولود يولد على الفطرة. فناداه الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين» .

قلت: أما ما ذكره عن ابن المبارك ومالك، فيمكن أن يقال: إن المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأولاد قد سبق في علم الله ما يعملون إذا بلغوا، وأن منهم من يؤمن فيدخل الجنة، ومنهم من يكفر فيدخل النار. فلا يحتج بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة) . على نفي القدر كما احتجت به القدرية، ولا على أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة، فيكون مقصود الأئمة أن يستقر الأطفال على ما في آخر الحديث.

وأما قول محمد، فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبويه في الدين في أحكام الدنيا، فيحكم له بحكم الكفر في [ ص: 383 ] أنه لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه المسلمون، ويجوز استرقاقهم، ونحو ذلك - فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب عنهم ألسنتهم، وهذا حق. لكن ظن أن الحديث اقتضى أن يحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين، فقال: هذا منسوخ، كان قبل الجهاد، لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال، والمؤمن لا يسترق، ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية، أمر ما زال مشروعا، وما زال الأطفال تبعا لأبويهم في الأمور الدنيوية.

والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام، وإنما قصد ما ولد عليه من الفطرة. وإذا قيل: إنه ولد على فطرة الإسلام، أو خلق حنيفا ونحو ذلك. فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده. فإن الله تعالى يقول: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا [سورة النحل:78]، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبته.

فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئا بعد شيء، بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض. [ ص: 384 ]

وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك أكثر من غيره، كما أن كل مولود يولد فإنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة، فيشتهي اللبن الذي يناسبه.

وهذا من قوله تعالى: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [سورة طه:50]، وقوله: الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [سورة الأعلى:2-3]، فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى طلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا فشيئا بحسب حاجته. ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة.

قال ابن عبد البر: (وأما اختلاف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث، وما كان مثله، فقالت فرقة: الفطرة في هذا الموضع أريد بها الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال: (كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة) يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم، التي لا تصل بخلقتها إلى معرفة ذلك) . [ ص: 385 ]

قالوا: (لأن الفاطر هو الخالق) .

قال: (وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر أو معرفة أو إنكار) .

التالي السابق


الخدمات العلمية