الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وولد الملاعنة من قوم أمه ، وعقل جنايته عليهم ; لأنه لا نسب ولا ولاء من جانب الأب ، فيكون منسوبا إلى قوم الأم بالنسب إن كانت من العرب وبالولاء إن كانت من الموالي ، فإن أعتق ابن الملاعنة عبدا فعقل جنايته على عاقلة الأم أيضا ; لأن المعتق منسوب بالولاء إلى من ينسب إليه المعتق بواسطة ، وقد بينا أن المعتق منسوب إلى قوم أمه عليهم عقل جنايته ، فكذلك معتقه وإن مات العبد بعد موت الابن وأمه ولا وارث له غيره ، ورثه أقرب الناس من الأم من العصبات ; لأن الولد لما كان منسوبا إليها كانت هي في حقه كالأب ، ولو كان له أب كان ميراث معتقه لأقرب عصبة الأب بعد موته ، فكذلك هنا ولو كان لها ابن ثم مات المولى ولا وارث له غير ابن الأم ، وهو أخ المعتق لأمه ، فإنه يرث المولى كأنه أخ المعتق لأبيه وأمه ; ولأن هذا الابن أقرب عصبة الأم في نسبة المعتق إليها كالأب ، فكذلك ابنها في استحقاق ميراث المعتق كابن الأب .

ولو كان للمعتق أخ وأخت كان ميراث المولى للأخ دون الأخت لهذين [ ص: 124 ] المعنيين ، ولو لم يكن له وارث غير أمه لم يكن لها من الميراث شيء ; لما بينا أنه لا يرث من النساء بالولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن ، وكان الميراث لأقرب الناس منها من العصبات ; لأنها لما لم ترث شيئا كانت كالميتة ، فإن ادعاه الأب وهو حي ثبت النسب منه ; لأن النسب قد استتر باللعان بعد ما كان ثابتا منه بالفراش ، وبقي موقوفا على حقه ، فإذا ادعاه في حال قيام حاجته ثبت نسبه منه ، ورجع ولاء مواليه العتاقة والموالاة إليه ، ويرجع عاقلة الأم بما عقلوا عنهم على عاقلة الأب ، وما كانوا متبرعين في هذا الأداء بل كانوا مجبرين عليه في الحكم فيرجعون عليهم ، وقد بينا الفرق بين هذا وبين ما إذا جر الأب ولاء الولد بعد ما عقل عنه موالي الأم ، وإنما يرجعون على عاقلة الأب لما بينا أن النسب إنما يثبت من وقت العلوق فتبين أن عاقلة الأم أدوا ما كان مستحقا على عاقلة الأب ، وإن كان الابن ميتا لم تجز دعوة الأب إلا أن يكون بقي له ولد ; ولأنه بالموت استغنى عن النسب فدعوى الأب لا تكون إقرارا بالنسب بل تكون دعوى للميراث ، وهو في ذلك متناقض ، فإن خلف الولد ابنا فحاجة ابن الابن كحاجة الابن في تصحيح دعوى الأب ، ولو كان ولد الملاعنة بنتا فماتت وتركت ولدا ، ثم ادعاه الأب جازت دعوته في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ; لأن موتها عن ولد كموت ابن الملاعنة عن ولد ; وهذا لأن ولدها محتاج إلى إثبات نسب أمه ليصير كريم الطرفين ، وفي قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى لم تجز دعوته ; لأن نسب هذا الولد إلى أبيه دون أمه ، فإن الولد من قوم أبيه .

ألا ترى أن إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه من قريش ، وأن أولاد الخلفاء من الإماء يصلحون للخلافة فلا معتبر بوجود هذا الولد لما لم يكن منسوبا إليها ، فلهذا لا تصح دعوة الأب ، وإن كان ولد الملاعنة أعتق عبدا ، ثم مات لاعن ولد فادعى الأب نسبه لم يصدق باعتبار بقاء مولاه ; لأن الولاء أثر الملك ولو بقي له أصل الملك على العبد لم يصدق وهو في الدعوة باعتباره ، فبقاء الولاء أولى وهذا ; لأنه إنما يعتبر بقاء من يصير منسوبا إليه بالنسب إذا صحت دعوته ، والمولى لا يصير منسوبا إليه بالنسب ، وإذا لاعن بولدي توأم ، ثم أعتق أحدهما عبدا ومات فادعى الأب الحي منهما ثبت نسبهما ; لأنهما خلقا من ماء واحد ، فبقاء أحدهما محتاجا إلى النسبة كبقائهما [ ص: 125 ] وإذا ثبت نسبهما جر الأب ولاء معتق الميت منهما إلى نفسه ، كما لو كان ثابت النسب منه حين أعتقه . والله سبحانه وتعالى أعلم بالصدق والصواب وإليه المرجع والمآب . قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد انتهى شرح كتاب الولاء بطريق الإملاء من الممتحن بأنواع البلاء . يسأل من الله تعالى تبديل البلاء والجلاء بالعز والعلاء ، فإن ذلك عليه يسير وهو على ما يشاء قدير . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين .

التالي السابق


الخدمات العلمية