الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو أطعم خمسة مساكين ، وكسا خمسة مساكين أجزأه ذلك من الطعام ، إن كان الطعام أرخص من الكسوة ، وإن كانت الكسوة أرخص من الطعام لم يجزئ ما لا يجزئ كل واحد منهما عن نفسه ; لأن المنصوص عليه ثلاثة أنواع ، فلو جوزنا إطعام خمسة مساكين وكسوة خمسة مساكين كان نوعا رابعا ، فيكون زيادة على المنصوص ، وهذا بخلاف ما إذا أدى إلى كل مسكين مدا من حنطة ونصف صاع من شعير ; لأن المقصود واحد ، وهو سد الجوعة ، فلا يصير نوعا رابعا ، فأما المقصود من الكسوة غير المقصود من الطعام ، ألا ترى أن الإباحة تجزئ في أحدهما دون الآخر ، ولو جوزنا النصف من كل واحد منهما كان نوعا رابعا ، ثم مراده من هذه المسألة إذا أطعم خمسة مساكين بطريق الإباحة والتمكين دون التمليك ، فإن التمليك فوق التمكين ، وإذا كان الطعام أرخص من الكسوة أمكن إكمال التمكين بالتمليك ، فتجوز الكسوة مكان الطعام ، وإن كانت الكسوة أرخص لا يمكن إقامة الطعام مقام الكسوة ; لأن التمكين دون التمليك ، وفي الكسوة التمليك معتبر فلا يمكن إقامة الكسوة مقام الطعام ; لأنه ليس فيهما وفاء بقيمة الطعام ، فأما إذا ملك الطعام خمسة مساكين ، وكسا خمسة مساكين ، فإنه يجوز على اعتبار أنه إن كان الطعام أرخص تقام الكسوة مقام الطعام ، وإن كانت الكسوة أرخص ، يقام الطعام مقام الكسوة لوجود التمليك فيها ، إليه أشار في باب الكسوة بعد هذا . ولو أطعم خمسة مساكين ، ثم افتقر كان عليه أن يستقبل الصيام ; لأن إكمال الأصل بالبدل غير ممكن ، فإنهما لا يجتمعان ، وليس له أن يسترد من المساكين الخمسة ما أعطاهم ; لأنها صدقة قد تمت بالوصول إلى يد المساكين ، ومن كانت له دار يسكنها أو ثوب يلبسه ، ولا يجد شيئا سوى ذلك أجزأه الصوم في الكفارة ; لأن المسكن والثياب من أصول حوائجه ، وما لا بد منه فلا يصير به واجدا لما يكفر به ، بخلاف ما لو كان له عبد يخدمه ، فإن ذلك ليس من أصول الحوائج .

ألا ترى أن كثيرا من الناس يتعيش من [ ص: 152 ] غير خادم له ; ولأن الرقبة منصوص عليها فمع وجود المنصوص عليه في ملكه لا يجزيه الصوم ، وفي الكتاب علل فقال : لأن الصدقة تحل له ، وهذا يؤيد مذهب أبي يوسف رحمه الله الذي ذكره في الأمالي ، أنه إذا كان الفاضل من حاجته دون ما يساوي مائتين يجوز له التكفير بالصوم ; لأن الصدقة تحل له ، فلا يكون موسرا ولا غنيا ، فأما ظاهر المذهب أنه إن كان يملك فضلا عن حاجته مقدار ما يكفر به لا يجوز له التكفير بالصوم ; لأن المنصوص عليه الوجود دون الغنى واليسار . قال الله تعالى { : فمن لم يجد } وهذا واجد ، وقد بينا في كتاب الإعتاق أن المعتبر في وجوب الضمان ملكه مقدار ما يؤدي به الضمان ، وإن كان اليسار منصوصا عليه هناك فهنا أولى ، وبينا في الظهار أنه لو أعطى كل مسكين صاعا عن ظهارين لا يجزيه إلا عن أحدهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى بخلاف ما إذا اختلف جنس الكفارة ، فكذلك في كفارة اليمين ، وإن أعطى عشرة مساكين ثوبا عن كفارة يمين لم يجزه عن الكسوة ; لأن الواجب عليه لكل مسكين كسوته وهو ما يصير به مكتسيا ، وبعشر الثوب لا يكون مكتسيا ، ويجزي من الطعام إذا كان الثوب يساويه . وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى : لا يجزيه إلا بالنية ; لأنه يجعل الكسوة بدلا عن الطعام ، وهو إنما نواه بدلا عن نفسه فلا يمكن جعله بدلا عن غيره إلا بنية . وجه ظاهر الرواية أنه ناو للتكفير به وذلك يكفيه ، كما لو أدى الدراهم بنية الكفارة يجزيه ، وإن لم ينو أن يكون بدلا عن الطعام إلا أن أبا يوسف يقول : الدراهم ليست بأصل فأداؤها بنية الكفارة يكون قصدا إلى البدل ، فأما الكسوة أصل فأداؤها بنية الكفارة لا يكون قصدا إلى جعلها بدلا عن الطعام ، ولكنا نقول عشر الثوب ليس بأصل في الكسوة لكل مسكين ، فهو وأداء الدراهم سواء .

التالي السابق


الخدمات العلمية