الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإن حلف لا يساكنه في بيت فدخل عليه فيه زائرا أو ضيفا ، وأقام فيه يوما أو يومين لم يحنث ; لأن هذا ليس بمساكنة إنما المساكنة بالاستقرار والدوام ، وذلك بمتاعه وثقله ، ألا ترى أن الإنسان يدخل في المسجد كل يوم مرارا ، ولا يسمى ساكنا فيه ، ويدخل على الأمير ، ويكون في داره يوما ، ولا يسمى مساكنا له في داره ، فكذلك هذا الذي دخل على فلان زائرا أو ضيفا لا يكون ساكنا معه فيه ، فلا يحنث إلا أن ينويه ، فحينئذ في نيته تشديد عليه ، فيكون عاملا ، ألا ترى أن الرجل قد يمر بالقرية فيبيت فيها ، ويقول : ما ساكنتها قط فيكون صادقا في ذلك ، ولو كان ساكنا في دار فحلف أن لا يسكنها ، ولا نية له ، ثم أقام فيها يوما أو أكثر لزمه الحنث ; لأن السكنى فعل مستدام حتى يضرب له المدة ، ويقال : سكن يوما أو شهرا ، والاستدامة على ما يستدام كالإنشاء . قال الله تعالى { : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى } . أي لا تمكث قاعدا ، فيجعل استدامة السكنى بعد يمينه كإنشائه ، وكذلك اللبس والركوب ; لأنه يستدام كالسكنى ، فأما إذا أخذ في النقلة من ساعته ، أو في نزع الثوب أو في النزول عن الدابة لم يحنث عندنا استحسانا ، وفي القياس يحنث ، وهو قول زفر رحمه الله تعالى لوجود جزء من الفعل المحلوف عليه بعد يمينه إلى أن يفرغ عنه ، ووجه الاستحسان أن هذا القدر لا يستطاع الامتناع عنه ، فيصير مستثنى لما عرف من مقصود الحالف ، وهو البر دون الحنث ، ولا يتأتى البر إلا بهذا ; ولأن السكنى هو الاستقرار والدوام في المكان ، والخروج ضده ، فالموجود منه بعد اليمين ما هو ضد السكنى حين أخذ في النقلة في الحال ، ولو خرج منها بنفسه ، ولم يشتغل بنقل الأمتعة يحنث عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى : لا يحنث ; لأنه عقد يمينه على سكناه ، وحقيقة ذلك بنفسه فينعدم بخروجه عقيب اليمين ، وحكي عنه في التعليل هذه المسألة ، قال : خرجت من مكة ، وخلفت فيها دفيترات أفأكون ساكنا بمكة ؟

( وحجتنا ) في ذلك أنه ساكن فيها بثقله وعياله ، فما لم ينقلهم فهو ساكن فيها لما بينا أن السكنى فعل على سبيل الاستقرار والدوام ، وذلك لا يتأتى إلا بالثقل والمتاع ، والعرف شاهد لذلك فإنك تسأل السوقي ، أين تسكن ؟ فيقول : في محلة كذا وهو في تجارته يكون [ ص: 163 ] في السوق ، ثم يشير إلى موضع ثقله وعياله ومتاعه ، فعرفنا أن السكنى بذلك بخلاف الدفيترات ، فإن السكنى لا تتأتى بها ، مع أن من مشايخنا من يقول : إذا كان يمينه على أن لا يسكن بلدة كذا فخرج منها بنفسه لم يحنث ، وإن خلف ثقله بها ، وقد روي بعض ذلك عن محمد رحمه الله تعالى بخلاف السكنى في الدار ، فإن من يكون في المصر في السوق يسمى ساكنا في الدار التي فيها ثقله ومتاعه وعياله ، فأما المقيم بأوزجند لا يسمى ساكنا ببخارى ، وإن كان بها عياله وثقله ، وقال رضي الله عنه : وهذه المسألة تنبني على أصل في مسائل الأيمان بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى أن عنده العبرة بحقيقة اللفظ ، والعادة بخلافها فلا تعتبر ; لأن المجاز لا يعارض الحقيقة وعندنا العادة الظاهرة اصطلاح طارئ على حقيقة اللغة ، والحالف يريد ذلك ظاهرا فيحمل كلامه عليه ، ألا ترى أن المديون يقول لصاحب الدين : والله لأجرينك على الشوك فيحمل على شدة المطل دون حقيقة اللفظ ، وكان مالك يقول : ألفاظ اليمين محمولة على ألفاظ القرآن ، وهذا بعيد أيضا فإن من حلف لا يستضيء بالسراج فاستضاء بالشمس لا يحنث ، والله تعالى سمى الشمس سراجا .

ومن حلف لا يجلس على البساط فجلس على الأرض لم يحنث ، والله تعالى سمى الأرض بساطا ، ولو حلف لا يمس وتدا ، فمس جبلا لا يحنث ، وقد سمى الله تعالى الجبال أوتادا ، فعرفنا أن الصحيح ما قلنا ، فإن نقل بعض الأمتعة فالمروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، أنه يحنث إذا ترك بعض أمتعة فيها ; لأنه كان ساكنا فيها بجميع الأمتعة ، فيبقى ذلك ببقاء بعض الأمتعة فيها ، وهو أصل لأبي حنيفة حتى جعل بقاء صفة السكون في العصير مانعا من أن يكون خمرا ، وبقاء مسلم واحد منا في بلدة ارتد أهلها مانعا من أن تصير دار حرب ، إلا أن مشايخنا رحمهم الله قالوا : هذا إذا كان الباقي يتأتى بها السكنى ، أما ببقاء مكنسة أو وتد أو قطعة حصير فيها ، فيبقى ساكنا فيها فلا يحنث ، وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قريب من هذا قال : إن بقي فيها ما يتأتى لمثله السكنى به يحنث وإلا فلا ، وعن محمد رحمه الله تعالى قال : إن نقل إلى المسكن الثاني ما يتأتى له السكنى به لم يحنث ; لأن بهذا صار ساكنا في المسكن الثاني فلا يبقى ساكنا في المسكن الأول ، ولو كان في طلب مسكن آخر ، فبقي في ذلك يوما أو أكثر لم يحنث في الصحيح من الجواب ; لأنه لا يمكنه طرح الأمتعة في السكة ، فيصير ذلك القدر مستثنى لما عرف من مقصوده إذا لم يفرط في الطلب ، وكذلك إن بقي في نقل الأمتعة أياما لكثرة أمتعته ولبعد المسافة ، ولم يستأجر لذلك جمالا بل جعل [ ص: 164 ] ينقل بنفسه شيئا فشيئا لم يحنث ، وإن بقي في ذلك شهرا إذا لم يفرط ; لأن نقل الأمتعة ضد الاستقرار في ذلك المكان ، فاشتغاله به يمنعه من أن يكون ساكنا فيه فلا يحنث لهذا .

التالي السابق


الخدمات العلمية