الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        فرع آخر: حكم عقد الهبة بعد الرجوع بالتراضي :

        تحرير محل النزاع:

        ذهب جمهور الفقهاء عدا الحنفية إلى أن رجوع الواهب لا يفتقر إلى [ ص: 188 ] حكم الحاكم، ولا رضا الموهوب له، فالخلاف في هذه المسألة سيكون محصورا بين فقهاء الحنفية دون غيرهم.

        والحنفية اختلفوا في حكم عقد الهبة بعد الرجوع بالتراضي على قولين:

        القول الأول: أن الرجوع في الهبة بالتراضي يعتبر فسخا، فينفسخ به عقد الهبة.

        وهو قول أئمة الحنفية الثلاثة: أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد.

        قال الكاساني: "واختلف في الرجوع فيها بالتراضي، فمسائل أصحابنا تدل على أن الفسخ أيضا كالرجوع بالقضاء; فإنهم قالوا: يصح الرجوع في المشاع الذي يحتمل القسمة، ولو كان هبة مبتدأة لم يصح مع الشياع، وكذا لا تقف صحته على القبض، ولو كانت هبة مبتدأة لوقفت صحته على القبض، وكذا لو وهب لإنسان شيئا ووهبه الموهوب له لآخر، ثم رجع الثاني في هبته، كان للأول أن يرجع، ولو كان هبة مبتدأة لم يكن له حق الرجوع، فهذه المسائل تدل على أن الرجوع بغير قضاء فسخ".

        القول الثاني: أن الرجوع في الهبة بالتراضي يعتبر هبة جديدة.

        وهو قول زفر من الحنفية.

        قال الكاساني: "وقال زفر: إنه هبة مبتدأة، وجه قوله: أن ملك الموهوب عاد إلى الواهب بتراضيهما، فأشبه الرد بالعيب، فيعتبر عقدا جديدا في حق ثالث كالرد بالعيب بعد القبض". [ ص: 189 ]

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        1- أن هذا العقد جائز الفسخ; لثبوت حق الرجوع فيه، وما هو جائز الفسخ يقتضي جواز استيفاء حق ثابت له، ولا فرق في ذلك بين الرضا والقضاء; لأن الواهب والموهوب له يفعلان بالتراضي على الرجوع في الهبة ما يفعله القاضي إذا حكم بذلك، وهو الفسخ.

        2- أن حق الواهب مقصور على العين، وفي مثله القضاء وغير القضاء سواء; لأنهما فعلا بدون القاضي عين ما يأمر به القاضي لو رفعا الأمر إليه، والموهوب له نظر لنفسه حين لم ير في الخصومة فائدة، فلم يكن متلفا حق الفقراء، وهو فسخ عقد الهبة.

        دليل القول الثاني:

        1- أن الملك عاد إلى الواهب بتراضيهما، فأشبه الرد بالعيب في البيع، فإنه إن كان بقضاء القاضي كان فسخا، وإن كان بالتراضي كان بيعا مبتدأ، فكذلك الرجوع في الهبة، وإن كان بقضاء القاضي كان فسخا، وإن كان بالتراضي كان هبة مبتدأة.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن التراضي إنما يكون موجب ملك مبتدأ إذا كان على سبب موجب للملك منه: كالهبة، والصدقة، والوصية، وهنا تراضيا على رفع السبب الأول، وذلك لا يصح موجبا ملكا مبتدأ، بل يكون فسخا من الأصل. [ ص: 190 ]

        بخلاف الرد بالعيب; فحق المشتري ليس في عين الرد، بل بالمطالبة في الجزء الثابت; ولهذا لو تعذر الرد رجع بحصة العيب من الثمن، وهنا حق الواهب في فسخ العقد مقصور على العين.

        الوجه الثاني: أن البيع عقد لازم من عقود المعاوضات، فيمتنع أن يقتضي ثبوت حق الفسخ لأحد المتعاقدين; ولكون ذلك منافيا للزوم العقد، بخلاف عقد الهبة; فإنه عقد تبرع غير لازم، فلا ينافيه ثبوت حق الفسخ لأحد المتعاقدين.

        2- أن الموهوب له لو رد الهبة في مرض موته برضاه بغير قضاء يعتبر ذلك من الثلث، وهذا دليل أن الرد برضاه يعتبر هبة مبتدأة، ولو كان ذلك فسخا لما اعتبر من ثلث تركة المريض، والرجوع في الهبة بالتراضي مثل رد الهبة في مرض الموت برضاه، فيكون هبة مبتدأة.

        ونوقش: بأن هذا قياس مع الفارق; لوجهين:

        الوجه الأول: أن رد الموهوب له إنما اعتبر في المرض من الثلث; لأن حق الورثة تعلق بجميع ماله، فلا يقدر أن يبطله باختياره، وإن أبطله رد عليه كيفما كان، وليس كذلك الرجوع بالتراضي.

        الوجه الثاني: أن رد المريض الهبة في مرض موته معتبر من الثلث وإن كان بقضاء، فلا شيء لورثة المريض على الواهب، فاعتباره من الثلث ليس من أجل أن ذلك هبة مبتدأة، لاستواء الرضا والقضاء فيه، وهذا بخلاف الرجوع في الهبة; للاتفاق على أنه فسخ إذا كان بحكم الحاكم. [ ص: 191 ]

        الترجيح:

        الراجح -والله أعلم- هو القول الأول، وهو أن الرجوع بالتراضي يعتبر فسخا، لا هبة مبتدأة; ومما يؤيد هذا القول ما ذكره الحنفية من مسائل تدل دلالة واضحة على أن الرجوع في الهبة فسخ لا هبة مبتدأة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية