الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( كما لو قال : اقتل عبدي أو اقطع يده ففعل فلا ضمان عليه ) إجماعا كقوله : اقطع يدي أو رجلي وإن سرى لنفسه ومات ; لأن الأطراف كالأموال فصح الأمر . ولو قال : اقطعه على أن تعطيني هذا الثوب أو هذه الدراهم فقطع يجب أرش اليد لا القود وبطل الصلح بزازية .

[ فروع ] هبة القصاص لغير القاتل لا يجوز ; لأنه يجري فيه التمليك . عفو الولي عن القاتل أفضل من الصلح والصلح أفضل من القصاص ، وكذا عفو المجروح . لا تصح توبة القاتل حتى يسلم نفسه للقود وهبانية . [ ص: 549 ] الإمام شرط استيفاء القصاص كالحدود عند الأصوليين .

وفرق الفقهاء أشباهه ، وفيها في قاعدة : الحدود تدرأ بالشبهات وكالحدود القصاص إلا في سبع . يجوز القضاء بعلمه في القصاص دون الحدود . القصاص يورث والحد لا . يصح عفو القصاص لا الحد . التقادم لا يمنع الشهادة بالقتل ، بخلاف الحد سوى حد القذف . ويثبت بإشارة أخرس وكتابته ، بخلاف الحد . تجوز الشفاعة في القصاص لا الحد . [ ص: 550 ] السابعة لا بد في القصاص من الدعوى ، بخلاف الحد سوى حد القذف ا هـ . وفي القنية : نظر في باب دار رجل ففقأ الرجل عينه لا يضمن إن لم يمكنه تنحيته من غير فقئها وإن أمكنه ضمن وقال الشافعي : لا يضمن فيهما .

ولو أدخل رأسه فرماه بحجر ففقأها لا يضمن إجماعا ، إنما الخلاف فيمن نظر من خارجها ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


( قوله وإن سرى لنفسه ومات ) عزي في التتارخانية إلى شيخ الإسلام . وفيها عن شرح الطحاوي : قال لآخر اقطع يدي ، فإن كان بعلاج كما إذا وقعت في يده أكلة فلا بأس به ، وإن من غير علاج لا يحل ، ولو قطع في الحالين فسرى إلى النفس لا يضمن ا هـ ( قوله ولو قال اقطعه ) أي الطرف المفهوم من الأطراف ( قوله وبطل الصلح ) أي ما رضي به بدلا عن الأرش . [ تنبيه ]

قال في الفصل من جامع الفصولين : وقد وقعت في بخارى واقعة ، وهي رجل قال لآخر ارم السهم إلي حتى آخذه فرمى إليه فأصاب عينه فذهب . قال ح : لم يضمن كما لو قال له اجن علي فجنى ، وهكذا أفتى بعض المشايخ به ، وقاسوه على ما لو قال اقطع يدي .

وقال صاحب المحيط ; الكلام في وجوب القود ، ولا شك أنه تجب الدية في ماله ; لأنه ذكر في الكتاب : لو تضاربا بالوكز فذهبت عين أحدهما يقاد لو أمكن ; لأنه عمد ، وإن قال كل منهما لآخر ده ده ، وكذا لو بارزا على وجه الملاعبة أو التعليم فأصابت الخشبة عينه فذهبت يقاد إن أمكن ا هـ .

وقال العلامة الرملي في حاشيته عليه أقول في المسألة قولان . قال في مجمع الفتاوى ولو قال كل واحد لصاحبه ده ده ووكز كل منهما صاحبه وكسر سنه فلا شيء عليه بمنزلة ما لو قال اقطع يدي فقطعها كذا في الخانية ا هـ . والذي ظهر في وجه ما في الكتاب أنه ليس من لازم قوله ده ده إباحة عينه لاحتمال السلامة مع المضاربة بالوكزة كاحتمالها مع رمي السهم فلم يكن قوله ارم السهم إلي وقوله ده ده صريحا في إتلاف عضوه بخلاف قوله اقطع يدي أو اجن علي فلم يصح قياس الواقعة عليه ، والمصرح به أن الأطراف كالأموال يصح الأمر فيها تأمل ا هـ ( قوله لغير القاتل ) وكذا للقاتل لوجود العلة فيه أفاده الحموي ، وانظر هل يسقط القصاص في الصورتين ط ، والظاهر أنه لا يتوقف في عدم السقوط إذ لا معنى لعدم جوازه إلا ذلك ( قوله عفو الولي عن القاتل أفضل ) ويبرأ القاتل في الدنيا عن الدية والقود ; لأنهما حق الوارث بيري ( قوله لا تصح توبة القاتل حتى يسلم نفسه للقود ) أي لا تكفيه التوبة وحدها [ ص: 549 ] قال في تبيين المحارم : واعلم أن توبة القاتل لا تكون بالاستغفار والندامة فقط بل يتوقف على إرضاء أولياء المقتول فإن كان القتل عمدا لا بد أن يمكنهم من القصاص منه ، فإن شاءوا قتلوه ، وإن شاءوا عفوا عنه مجانا ، فإن عفوا عنه كفته التوبة ا هـ ملخصا ، وقدمنا آنفا أنه بالعفو عنه يبرأ في الدنيا ، وهل يبرأ فيما بينه وبين الله تعالى : هو بمنزلة الدين على رجل فمات الطالب وأبرأته الورثة يبرأ فيما بقي ; أما في ظلمه المتقدم لا يبرأ فكذا القاتل لا يبرأ عن ظلمه ويبرأ عن القصاص والدية تتارخانية .

أقول ; والظاهر أن الظلم المتقدم لا يسقط بالتوبة لتعلق حق المقتول به ، وأما ظلمه على نفسه بإقدامه على المعصية فيسقط بها تأمل .

وفي الحامدية عن فتاوى الإمام النووي مسألة فيمن قتل مظلوما فاقتص وارثه أو عفا عن الدية أو مجانا هل للقاتل بعد ذلك مطالبة في الآخرة الجواب : ظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الآخرة ا هـ ، وكذا قال في تبيين المحارم : ظاهر بعض الأحاديث يدل على أنه لا يطالب .

وقال في مختار الفتاوى : القصاص مخلص من حق الأولياء ، وأما المقتول فيخاصمه يوم القيامة فإن بالقصاص ما حصل فائدة للمقتول وحقه باق عليه ا هـ وهو مؤيد لما استظهرته ( قوله وفرق الفقهاء ) أي بين القصاص والحدود فيشترط الإمام لاستيفاء الحدود دون القصاص حموي . قال في الهندية : وإذا قتل الرجل عمدا وله ولي واحد فله أن يقتله قصاصا قضى القاضي به أو لم يقض ا هـ ط ( قوله يجوز القضاء بعلمه في القصاص ) مبني على أن القاضي يقضي بعلمه في غير الحدود . والفتوى اليوم على عدم جواز القضاء بعلمه مطلقا حموي ا هـ ط وسيذكره الشارح في أول جنايات المملوك ( قوله القصاص يورث ) سيأتي بيانه في أول باب الشهادة في القتل ( قوله لا الحد ) شمل حد القذف ، وهو محمول على ما بعد المرافعة . أما قبلها فهو جائز . وفي الحاوي إذا ثبت الحد لم يجز الإسقاط ، وإذا عفا المقذوف عن القاذف فعفوه باطل ، وله أن يطالب بالحد ا هـ إلا إذا قال لم يقذفني أو كذب شهودي فإنه يصح كما في البحر عن الشامل والمراد من بطلان العفو أنه إذا عاد وطلبه حد ; لأن العفو كان لغوا فكأنه لم يخاصم إلى الآن ، وليس المراد أن الإمام له أن يقيمه بعد ذهاب المقذوف وعفوه ، أفاده أبو السعود في حاشية الأشباه ط ( قوله بخلاف الحد ) فإن التقادم يمنعه والتقادم في الشرب بذهاب الربح ، وفي حد غيره بمضي شهر وقد مضى في الحدود ط ( قوله لا الحد ) فلا تجوز الشفاعة فيه بعد الوصول للحاكم أما قبل الوصول إليه والثبوت عنده فتجوز الشفاعة عند الرافع له إلى الحاكم ليطلقه ; لأن الحد لم يثبت كما في البحر .

وفي البيري قال الأكمل في حديث { اشفعوا تؤجروا } ولا يتناول الحديث الحدود فتبقى الشفاعة لأرباب الحوائج المباحة كدفع الظلم أو تخليص خطأ وأمثالهما ، وكذا [ ص: 550 ] العفو عن ذنب ليس فيه حد إذا لم يكن المذنب مصرا ، فإن كان مصرا لا يجوز حتى يرتدع عن الذنب والإصرار ا هـ ومثله في حاشية الحموي عن شرح مسلم للإمام النووي ( قوله السابعة إلخ ) قال في الأشباه : تسمع الشهادة بدون الدعوى في الحد الخالص والوقف وعتق الأمة وحريتها الأصلية ، وفيما تمحض لله تعالى كرمضان ; وفي الطلاق والإيلاء والظهار ا هـ ( قوله سوى حد القذف ) وكذا حد السرقة لما تقدم في محله إن طلب المسروق منه المال شرط القطع ، فلو أقر أنه سرق مال الغائب توقف على حضوره ومخاصمته . [ تنبيه ]

زاد الحموي ثامنة ، وهي اشتراط الإمام لاستيفاء الحدود دون القصاص . قال أبو السعود ويزاد تاسعة وهي جواز الاعتياض في القصاص بخلاف حد القذف حتى لو دفع القاذف مالا للمقذوف ليسقط حقه فإنه يرجع به ا هـ .

أقول : ويزاد عاشرة ، وهي صحة رجوعه عن الإقرار في الحد ( قوله لا يضمن إجماعا ) ; لأنه شغل ملكه ; كما لو قصد أخذ ثيابه فدفعه حتى قتله لم يضمن منح عن القنية . وفي معراج الدراية : ومن نظر في بيت إنسان من ثقب أو شق باب أو نحوه فطعنه صاحب الدار بخشبة أو رماه بحصاة ففقأ عينه يضمن عندنا . وعند الشافعي لا يضمن ، لما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال { لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة وفقأت عينه لم يكن عليك جناح } .

ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { في العين نصف الدية } وهو عام ، ولأن مجرد النظر إليه لا يبيح الجناية عليه كما لو نظر من الباب المفتوح وكما لو دخل بيته ونظر فيه أو نال من امرأته ما دون الفرج لم يجز قلع عينه ; لأن قوله عليه الصلاة والسلام { لا يحل دم امرئ مسلم } الحديث يقتضي عدم سقوط عصمته ، والمراد بما روى أبو هريرة المبالغة في الزجر عن ذلك ا هـ ومثله في ط عن الشمني ، وقوله وكما لو دخل بيته إلخ مخالف لما ذكره الشارح إلا أن يحمل ما ذكره على ما إذا لم يمكن تنحيته بغير ذلك ، وما هنا على ما إذا أمكن فليتأمل ، والله تعالى أعلم .




الخدمات العلمية