الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا يحجر حر مكلف بسفه ) هو تبذير المال وتضييعه على خلاف مقتضى الشرع أو العقل درر ولو في الخير كأن يصرفه في بناء المساجد ونحو ذلك فيحجر عليه عندهما وتمامه في فوائد شتى في الأشباه ( وفسق ودين ) وغفلة ( بل ) يمنع ( مفت ماجن ) يعلم الحيل الباطلة كتعليم الردة لتبين من زوجها أو لتسقط عنها الزكاة ( وطبيب جاهل ومكار مفلس [ ص: 148 ] وعندهما يحجر على الحر بالسفه و ) الغفلة و ( به ) أي بقولهما ( يفتى ) صيانة لماله وعلى قولهما المفتى به ( فيكون في أحكامه كصغير ) ثم هذا الخلاف في تصرفات تحتمل الفسخ ويبطلها الهزل وأما ما لا يحتمله ولا يبطله الهزل فلا يحجر عليه بالإجماع فلذا قال ( إلا في نكاح وطلاق وعتاق واستيلاد وتدبير [ ص: 149 ] ووجوب زكاة ) وفطرة ( وحج وعبادات وزوال ولاية أبيه أو جده وفي صحة إقراره بالعقوبات وفي الإنفاق وفي صحة وصاياه بالقرب من الثلث فهو ) أي في هذه ( كبالغ ) وفي كفارة كعبد أشباه .

والحاصل أن كل ما يستوي فيه الهزل والجد ينفذ من المحجور وما لا فلا إلا بإذن القاضي خانية .

التالي السابق


( قوله : ولا يحجر حر إلخ ) في بعض النسخ على حر . واعلم أن الحجر عند أبي حنيفة على الحر العاقل البالغ لا يجوز بسبب السفه والدين والفسق والغفلة وعندهما يجوز بغير الفسق ، وعند الشافعي يجوز بالكل كفاية ، وأما الحجر على المفتي الماجن وأخويه فليس بحجر اصطلاحي كما يأتي وظاهر الدرر أن عندهما أيضا يحجر عليه بالفسق ، وهو مخالف لعامة الكتب كما نبه عليه في العزمية ، وكلام المصنف والشارح هنا مجمل فتأمل . ( قوله : هو تبذير المال إلخ ) فارتكاب غيره من المعاصي كشرب الخمر والزنا لم يكن من السفه المصطلح في شيء قهستاني ، والمراد أنه كان رشيدا ثم سفه لما يأتي متنا أنه لو بلغ غير رشيد لم يسلم إليه ماله إلخ . ( قوله : على خلاف مقتضى الشرع أو العقل ) كالتبذير والإسراف في النفقة وأن يتصرف تصرفات لا لغرض أو لغرض لا يعده العقلاء من أهل الديانة غرضا كدفع المال إلى المغنين واللعابين وشراء الحمامة الطيارة بثمن غال والغبن في التجارات من غير محمدة . وأصل المسامحات في التصرفات والبر والإحسان مشروع إلا أن الإسراف حرام كالإسراف في الطعام والشراب قال تعالى { إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } كفاية . ( قوله : فيحجر عليه عندهما ) مستدرك مع ما يأتي مع عدم صحة التفريع أيضا ح . ( قوله : وتمامه إلخ ) هو ما ذكرناه آنفا عن الكفاية . ( قوله : وفسق ) أي من غير تبذير مال فإن الفاسق أهل للولاية على نفسه وأولاده عند جميع أصحابنا وإن لم يكن حافظا لماله قهستاني . ( قوله : ودين ) وإن زاد على ماله وطلب الغرماء من القاضي الحجر عليه قهستاني . ( قوله : وغفلة ) أي لا يحجر على العاقل بسبب غفلة وهو ليس بمفسد ولا يقصده لكنه لا يهتدي إلى التصرفات الرائجة فيغبن في البياعات لسلامة قلبه زيلعي . ( قوله : بل يمنع ) أشار به إلى أنه ليس المراد به حقيقة الحجر ، وهو المنع الشرعي الذي يمنع نفوذ التصرف ، لأن المفتي لو أفتى بعد الحجر وأصاب جاز ، وكذا الطبيب لو باع الأدوية نفذ فدل أن المراد المنع الحسي كما في الدرر عن البدائع .

( قوله : ماجن ) قال في الجمهرة مجن الشيء يمجن مجونا إذا صلب وغلظ وقولهم رجل ماجن كأنه مأخوذ من غلظ الوجه وقلة الحياء وليس بعربي محض ابن كمال . ( قوله : كتعليم الردة إلخ ) وكالذي يفتي عن جهل شرنبلالية عن الخانية . ( قوله : وطبيب جاهل ) بأن يسقيهم دواء مهلكا وإذا قوي عليهم لا يقدر على إزالة ضرره زيلعي . ( قوله : ومكار مفلس ) بأن يكري إبلا وليس له إبل ولا مال ليشتريها به ، وإذا جاء أوان الخروج يخفي نفسه جوهرة فمنع هؤلاء المفسدين للأديان والأبدان والأموال دفع إضرار بالخاص والعام ، فهو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما في القهستاني وغيره قيل وألحق بهذه الثلاثة ثلاثة أخرى : المحتكر ، وأرباب الطعام إذا تعدوا في البيع بالقيمة ، وما لو أسلم عبدا لذمي وامتنع من بيعه باعه القاضي ا هـ . [ ص: 148 ] قلت : وباب الأمر بالمعروف أوسع من هذا تأمل نعم ينبغي ذكر المريض فإنه ممنوع عن التصرف فيما فوق الثلث . [ تنبيه ] :

يعلم من هذا عدم جواز ما عليه أهل بعض الصنائع والحرف من منعهم من أراد الاشتغال في حرفتهم وهو متقن لها أو أراد تعلمها فلا يحل التحجير كما أفتى به في الحامدية . ( قوله : وعندهما يحجر على الحر ) أي العاقل البالغ . قال في الجوهرة : ثم اختلفا فيما بينهما قال أبو يوسف : لا يحجر عليه إلا بحجر الحاكم ، ولا ينفك حتى يطلقه . وقال محمد : فساده في ماله يحجره وإصلاحه فيه يطلقه ، والثمرة فيما باعه قبل حجر القاضي يجوز عند الأول لا الثاني . ( قوله : بالسفه والغفلة ) أي والدين كما يأتي وعبر بعضهم عن الغفلة بالفساد ليس المراد به الفسق فافهم قال في الدر المنتقى : ويشترط لصحة الحجر عندهما القضاء بالإفلاس ، ثم الحجر بناء عليه ، ولا يشترط ذلك في الحجر بالسفه مع كونه يعم جميع الأموال . وأما الحجر بالدين فيخص المال الموجود ، حتى ينفذ تصرفه في مال حدث بعده بالكسب كما يعلم من القهستاني والبرجندي فليحفظ ا هـ .

وفي التتارخانية : الحجر بالدين يفارق الحجر بالسفه من وجوه ثلاثة : أحدها : أن حجر السفيه لمعنى فيه وهو سوء اختياره لا لحق الغرماء بخلافه بسبب الدين فيفتقر للقضاء .

الثاني : أن المحجور بالسفه إذا أعتق عبدا ووجبت عليه السعاية وأدى لا يرجع بما سعى على المولى بعد زوال الحجر بخلاف المحجور بالإفلاس . الثالث : أن المحجور بالدين لو أقر حالة الحجر ينفذ إقراره بعد زوال الحجر وكذا حالة الحجر فيما سيحدث له من المال حالة الحجر والمحجور بالسفه لا يجوز إقراره لا حال الحجر ولا بعده ولا في المال القائم ولا الحادث ا هـ ملخصا .

قلت : ويزاد ما مر من توقف الحجر بالدين على القضاء أي على قول أبي يوسف لكونه لحق الغرماء ، بخلاف الحجر بالسفه لأنه لحقه فلا يتوقف كما أشير إليه فيما مر وظاهر كلامهم ترجيحه على قول محمد . ( قوله : به ) أي بقولهما يفتى به صرح قاضي خان في كتاب الحيطان ، وهو صريح فيكون أقوى من الالتزام كذا قال الشيخ قاسم في تصحيحه : ومراده أن ما وقع في المتون من القول بعدم الحجر على الحر مصحح بالالتزام وما وقع في قاضي خان من التصريح بأن الفتوى على قولهما تصريح بالتصحيح فيكون هو المعتمد ، وجعل عليه الفتوى مولانا في فوائده منح ، وفي حاشية الشيخ صالح ، وقد صرح في كثير من المعتبرات بأن الفتوى على قولهما وفي القهستاني عن التوضيح أنه المختار ا هـ وأفتى به البلخي وأبو القاسم كما ذكره في المنح عن الخانية قبيل قوله الآتي " والقاضي يحبس الحر المديون " . ( قوله : كصغير ) أي يعقل ومثله البالغ المعتوه كما في حواشي الأشباه . ( قوله : إلا في نكاح وطلاق ) فإن سمى جاز منه مقدار مهر المثل وبطل الفضل ، وإن طلقها قبل الدخول وجب نصف المسمى ، لأن التسمية صحيحة في مقدار مهر المثل ، وكذا لو تزوج أربع نسوة أو تزوج كل يوم واحدة فطلقها لأن التزوج من حوائجه الأصلية زيلعي . ( قوله : وعتاق ) وعلى العبد أن يسعى في قيمته عند محمد وهو الصحيح طوري . ( قوله : واستيلاد ) بأن ولدت جاريته فادعاه ثبت نسبه وصارت أم ولده وتعتق من جميع ماله بموته ولا تسعى هي ولا ولدها في شيء لأن ثبوت نسب الولد شاهد لها ; ولو لم يكن معها ولد فقال هذه أم ولدي لم تبع وسعت بموته في كل قيمتها بمنزلة المريض زيلعي وهي ثلث قيمتها قنا جوهرة . ( قوله : وتدبير ) ويسعى بموت المولى غير رشيد في قيمته [ ص: 149 ] مدبرا وقيمة المدبر ثلثا قيمته قنا وقيل نصفها وعليه الفتوى جوهرة لكن سيأتي صحة وصاياه بالقرب من الثلث والتدبير منها .

وفي الطوري عن المحيط قال مشايخنا : هذا أي سعيه إذا كان أهل الصلاح يعدون هذه الوصية إسرافا فإن كانوا لا يعدونها إسرافا بل معهودا حسنا لا يسعى في قيمته إذا كان يخرج من الثلث . ( قوله : ووجوب زكاة ) ويدفعها القاضي إليه ليفرقها لأنها عبادة لا بد فيها من نيته ولكن يبعث معه أمينا كي لا يصرفها في غير وجهها هداية . ( قوله : وفطرة ) فيه أنها تجب على الصغير حتى لو لم يخرجها وليه وجب الأداء بعد البلوغ كما مر في بابها فليست مما خالف فيها الصغير إلا أن يقال المخاطب بها وليه تأمل . ( قوله : وحج ) لأنه واجب بإيجاب الله تعالى من غير صنعه ولا يمنع من عمرة واحدة فيها استحسانا ولا من القران لأنه لا يمنع من إفراد السفر لكل واحدة منهما ، فلا يمنع من الجمع بينهما للخلاف في وجوبها ، ويسلم النفقة إلى ثقة لئلا يتلفها فإن جامع قبل الوقوف يدفع القاضي نفقة الرجوع ، ولا تلزمه الكفارة إلا بعد زوال الحجر ; وإن أفسد العمرة يقضيها بعد زواله أيضا وتمامه في الجوهرة ولو أحرم بحجة تطوع دفع إليه من النفقة مقدار ما لو كان في منزله ، ويقال له إن شئت فاخرج ماشيا إلا أن يكون القاضي وسع في النفقة فقال : أنا أكري بذلك الفضل وأنفق على نفسي فلا يمنع من ذلك طوري . ( قوله : وعبادات ) أي بدنية لا مالية ولا مركبة منهما أيضا . ففي شرح المفتاح لابن السبكي : كل موضع يدعى فيه أنه من عطف العام على الخاص يراد بالعام ما عدا ذلك الخاص ; فيكون من عطف المباين قال : وهذا هو التحقيق حموي وبه صرح في السعدية أبو السعود .

قلت : فيكون من العام المخصوص أو المراد به الخصوص وهل الأول حقيقة في الباقي أو مجاز كالثاني ؟ خلاف بينته في حاشية شرح المنار أول بحث العام هذا وفي استثناء الحج والعبادات نظر فإنها تصح من الصغير أيضا إلا أن يقال المراد صحتها على سبيل الوجوب تأمل . ( قوله : وزوال ولاية أبيه أو جده ) يعني عدم ولايتهما عليه بخلاف الصغير حموي أي فإن ولايتهما عليه ثابتة . ( قوله : وفي صحة إقراره بالعقوبات ) كما لو أقر على نفسه بوجوب القصاص في نفس أو فيما دونها حموي . ( قوله : وفي الإنفاق ) أي على نفسه وولده وزوجته ومن تجب عليه نفقته من ذوي أرحامه من ماله شرح تنوير الأذهان وفي بعض النسخ وفي الإيقاف من أوقف ، لكن في الأشباه أن وقفه باطل واختلفوا فيما لو كان بإذن القاضي فصححه البلخي وأبطله أبو القاسم ا هـ . ( قوله : وفي صحة وصاياه بالقرب من الثلث ) يعني إذا كان له وارث والقياس أن لا تجوز وصيته كتبرعاته . وجه الاستحسان أن الحجر عليه لمعنى النظر له كي لا يتلف ماله ويبقى كلا على غيره ، وذلك في حياته لا فيما ينفذ من الثلث بعد وفاته حال استغنائه وذلك إذا وافق وصايا أهل الخير والصلاح كالوصية بالحج أو للمساكين أو بناء المساجد والأوقاف والقناطر والجسور . وأما إذا أوصى بغير القرب لا تنفذ عندنا طوري . ( قوله : كبالغ ) أي غير محجور وإلا فهو بالغ ح . ( قوله : وفي كفارة كعبد ) فلو حلف وحنث أو نذر نذرا من هدي أو صدقة أو ظاهر من امرأته لا يلزمه المال ويكفر يمينه وغيرها بالصوم زيلعي . ( قوله : والحاصل إلخ ) مستغنى عنه بقوله ثم هذا الخلاف إلخ لكن أعاده لقوله إلا بإذن القاضي وإنما حصره به لما مر من زوال ولاية أبيه وجده .




الخدمات العلمية