الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أنبأنا ) وفي نسخة أخبرنا ( معلى ) بضم ففتح فمشددة مفتوحة ( ابن أسد ، حدثنا عبد العزيز بن المختار [ ص: 299 ] حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من رآني في المنام فقد رآني ) أي : في حقيقة المرام ( فإن الشيطان لا يتخيل بي ) أي : فلا تكون رؤياي عن أضغاث أحلام ، حكي أن أبا جمرة والمازري واليافعي وغيرهم عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة ، وذكر ابن أبي جمرة عن جمع أنهم حملوا على ذلك رواية فسيراني في اليقظة ، وأنهم رأوه نوما فرأوه يقظة بعد ذلك وسألوه عن تشويشهم في الأشياء ، فأخبرهم بوجوه تفريجها ، فكان ذلك بلا زيادة ، ولا نقصان ، وقد أشرنا إليه سابقا قال : ومنكر ذلك إن كان ممن يكذب بكرامات الأولياء فلا بحث معه ؛ لأنه مكذب بما أثبتته السنة ، وإلا فهذه منها إذ يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالم العلوي والسفلي ، وحكيت رؤيته - صلى الله عليه وسلم - كذلك عن الأماثل كالإمام عبد القادر الجيلي ، كما هو في عوارف المعارف ، والإمام أبي الحسن الشاذلي ، كما حكاه عنه التاج ابن عطاء الله ، وكصاحبه الإمام أبي العباس المرسي ، والإمام علي الوفائي ، والقطب القسطلاني ، والسيد نور الدين الإيجي ، وجرى على ذلك الغزالي فقال في كتابه المنقذ من الضلال : وهم يعني أرباب القلوب في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ، ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد انتهى .

وأنكر ذلك جماعة منهم الأهدل اليمني حيث قال : القول بذلك يدرك فساده بأوائل العقول ; لاستلزامه خروجه من قبره ، ومشيه في الأسواق ، ومخاطبته للناس ، ومخاطبتهم له ، وخلو قبره عن جسده المقدس ، فلا يبقى منه فيه شيء بحيث يزار مجرد القبر ، ويسلم على غائب ، وأشار كذلك القرطبي في الرد على القائل بأن الرائي له في المنام رأى حقيقة ، ثم يراه كذلك في اليقظة ، قال : وهذه جهالات ، ولا يقول بشيء منها من له أدنى مسكة من المعقول ، وملتزم شيء من ذلك مخبل مخبول . انتهى .

وهذه الإلزامات كلها ليس شيء منها بلازم لذلك ، ودعوى استلزامه لذلك عين الجهل أو العناد ، وبيانه أن رؤيته - صلى الله عليه وسلم - يقظة لا تستلزم خروجه من قبره ؛ لأن من كرامات الأولياء كما مر أن الله يخرق لهم الحجب فلا مانع عقلا ، ولا شرعا ، ولا عادة أن الولي وهو بأقصى المشرق أو المغرب يكرمه الله تعالى بأن لا يجعل بينه وبين الذات الشريفة ، وهي في محلها من القبر الشريف ساترا ولا حاجبا بأن يجعل تلك الحجب كالزجاج الذي يحكي ما وراءه وحينئذ فيمكن أن يكون الولي يقع نظره عليه عليه السلام ونحن نعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره يصلي ، وإذا أكرم إنسان بوقوع بصره عليه ، فلا مانع من أن يكرم بمحادثته ومكالمته وسؤاله عن الأشياء وأنه يجيبه عنها ، وهذا كله غير منكر شرعا ، ولا عقلا ، وإذا كانت المقدمات والنتيجات غير منكرين عقلا ولا شرعا ، فإنكارهما أو إنكار أحدهما غير ملتفت إليه ، ولا معول عليه ، وبهذا يعلم أن ما ذكره القرطبي غير لازم أيضا ، كيف ، وقد مر القول بأن الرؤيا في النوم رؤية تحقيقية عن جماعة من الأئمة ، ومنهم أيضا صاحب فتح الباري فقال بعد ما مر عن ابن أبي جمرة ، وهذا مشكل جدا ، ولو حمل على الظاهر لكان [ ص: 300 ] هؤلاء صحابة ، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة ، ويرد بأن الشرط في الصحابي أن يكون رآه في حياته حتى اختلفوا في من رآه بعد موته وقبل دفنه هل يسمى صحابيا أم لا ؟ على أن هذا أمر خارق للعادة ، والأمور التي كذلك لا يغير لأجلها القواعد الكلية ، ونوزع في ذلك أيضا بأنه لم يحك ذلك عن أحد من الصحابة ، ولا من بعدهم ، ولأن فاطمة اشتد حزنها عليه حتى ماتت كمدا بعد ستة أشهر ، وبيتها مجاور لضريحه الشريف ، ولم ينقل عنها رؤيتها تلك المدة انتهى .

ويرد أيضا بأن عدم نقله لا يدل على عدم وقوعه ، بل ، ولا عدم وقوعه على جواز تحققه فلا حجة في ذلك كما هو ظاهر مقرر في محله .

قال ابن حجر : وتأويل الأهدل وغيره ما وقع للأولياء من ذلك إنما هو في حال غيبته فيظنونها يقظة ، فيه إساءة ظن بهم ، حيث يشتبه عليهم رؤية الغيبة برؤية اليقظة ، وهذا لا يظن بأدون العقلاء ، فكيف بأكابر الأولياء .

قلت ليس هذا من باب إساءة الظن ، بل من باب التأويل الحسن جمعا بين المنقول والمشاهد والمعقول ، فإنه لو حمل على الحقيقة لكان يجب العمل بما سمعوا منه - صلى الله عليه وسلم - من أمر ونهي وإثبات ونفي ، ومن المعلوم أنه لا يجوز ذلك إجماعا كما لا يجوز بما وقع في حال المنام ، ولو كان الرائي من أكابر الأنام ، وقد صرح المازري بأن من رآه يأمر بقتل من يحرم قتله كان هذا من الصفات المتخيلة لا المرئية ، فيتعين أن يحمل هذه الرؤية أيضا على رؤية عالم المثال أو عالم الأرواح ، كما سبق تحقيقه عن الإمام حجة الإسلام ، وبعد حملنا على عالم المثال فيزول الإشكال على كل حال ، فإن الأولياء في عالم الدنيا مع ضيقها ، قد يحصل لهم أبدان مكتسبة وأجسام متعددة ، تتعلق حقيقة أرواحهم بكل واحد من الأبدان ، فيظهر كل في خلاف آخر من الأماكن والأزمان ، وحينئذ لا نقول بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مضيق عليه في عالم البرزخ بكونه محصورا في قبره ، بل نقول إنه يجول في العالم السفلي والعالم العلوي ، فإن أرواح الشهداء مع أن مرتبتهم دون مرتبة الأنبياء إذا كانت في أجواف طير خضر تسرح في رياض الجنة ، ثم تعود إلى قنديل معلقة تحت العرش كما هو مقرر ، وفي محله محرر ، مع أنه لم يقل أحد أن قبورهم خالية عن أجسادهم ، وأرواحهم غير المتعلقة بأجسامهم ; لئلا يسمعوا سلام من يسلم عليهم ، وكذا ورد أن الأنبياء يلبون ويحجون ، فنبينا - صلى الله عليه وسلم - أولى بهذه الكرامات ، وأمته مكرمة بحصول خوارق العادات ، فيتعين تأويل الأهدل وغيره فتأمل .

ومن جملة تأويلاته فقوله في قول العارف أبي العباس المرسي لو حجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفة عين ما عددت نفسي مسلما بأن هذا فيه تجوز ، أي : لو حجب عني حجاب غفلة ولم يرد أنه يحجب عن الروح الشخصية طرفة عين ، فذلك مستحيل أي : عرفا وعادة ، إذ لا يعرف استمرار خارق العادة أصلا لا شرعا ، ولا عقلا ، فاندفع قول ابن حجر لا استحالة فيه بوجه أصلا ( قال ) أي : أنس كما هو الظاهر ، وإلا لقال : وقال لكنه موقوف في حكم المرفوع ، ولا يبعد أن يكون الضمير له - صلى الله عليه وسلم - استغناء عن التصريح بمقتضى التوضيح ( ورؤيا المؤمن ) [ ص: 301 ] أي : الكامل لرواية البخاري ، الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح ( جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) والمراد : غالب رؤيا الصالحين ، وإلا فقد يرى الصالح الأضغاث نادرا لقلة تسلط الشيطان عليه ، كما أنه قد يرى غير الصالح أيضا الرؤية الحسنة ، ومما يدل على أن حديث الأصل موقوف عن أنس مرفوع عن غيره أن السيوطي قال في الجامع الصغير رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أنس ، وهم وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت وأحمد والشيخان وابن ماجه عن أبي هريرة ، ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد ، ولفظه رؤيا المسلم الصالح جزء من سبعين جزءا من النبوة ، ورواه الحكيم والترمذي والطبراني عن العباس ، ولفظه رؤيا المؤمن الصالح بشرى من الله ، وهي جزء من خمسين جزءا من النبوة ، ورواه الترمذي في جامعه عن أبي رزين بلفظ رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة ، فاختلاف الروايات يدل على أن المراد بالأعداد إنما هو الكثرة لا التحديد بالأجزاء المعتبرة ، ولا يبعد أن يحمل على اختلاف أحوال الرائي أو الأزمنة والأمكنة ، وعلى كل فقد روى الطبراني والضياء عن عبادة بن الصامت مرفوعا رؤيا المؤمن كلام يكلم به العبد ربه في المنام ، والظاهر رفع العبد ، ولا يبعد نصبه ، بل هو الملائم لمقام المرام ، ثم قيل معناه أن الرؤيا جزء من أجزاء علم النبوة ، والنبوة غير باقية ، وعملها باق ، وهو بمعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - ذهبت النبوة ولم يبق إلا المبشرات ; الرؤيا الصالحة ، والتعبير بالمبشرات للغالب وإلا فمن الرؤيا ما يكون من المنذرات ، ونظير ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - السمت الحسن والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة أي : من أخلاق أهل النبوة ، وقيل معناه أنها تجيء على موافقة النبوة لا أنها جزء باق منها ، وقيل المراد من هذا العدد المخصوص الخصال الحميدة ، أي : كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ستة وأربعون خصلة ، والرؤيا الصالحة جزء منها ، ويؤيد هذا التوجيه الحديث الذي رواه أبو هريرة مرفوعا لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قالوا : وما المبشرات ؟ قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له أخرجه البخاري ، وقوله من الرجل في هذا وأمثاله لا مفهوم له اتفاقا ، فالمرأة كذلك ، فقيل كان زمان نزول الوحي ثلاثة وعشرين سنة وكان - صلى الله عليه وسلم - في أول البعثة مؤيدا بالرؤيا الصالحة الصادقة ستة أشهر ، فحينئذ كانت الرؤيا جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، وقد زيف المحققون هذا القول ، وقالوا : ما حصر سني الوحي فإنه مما ورد به الروايات المعتد بها على اختلاف ذلك ، وأما كون زمان الرؤيا فيها ستة أشهر ، فشيء قدره هذا القائل في نفسه ولم يساعده النقل قال التوربشتي : وأرى الذاهبين إلى التأويلات التي ذكرناها قد هالهم القول بأن الرؤيا جزء من النبوة ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهبت النبوة ، ولا حرج على أحد في الأخذ بظاهر هذا القول فإن جزء النبوة لا يكون نبوة كما أن جزءا من الصلاة على الانفراد ، لا يكون صلاة ، وكذلك عمل من أعمال الحج ، وشعبة من شعب الإيمان ، وأما وجه تحديد الأجزاء [ ص: 302 ] بستة وأربعين ، فالأولى في ذلك أن يجتنب القول فيه ، ويتلقى بالتسليم ; لكونه من علوم النبوة التي لا تقابل بالاستنباط ، ولا يتعرض له بالقياس ، وذلك مثل ما قال في حديث عبد الله بن سرجس في السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد أنها جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة ، وقلما يصيب مئول في حصر الأجزاء ، ولئن قيض له الإصابة في بعضها لما يشهد به بعض الأحاديث المستخرج منها لم يسلم لك في البقية ، والله أعلم ، ذكره ميرك .

وأما قول مالك لما سئل أيعبر الرؤيا كل أحد ؟ فقال أبالنبوة تلعب ، ثم قال الرؤيا جزء من النبوة ، فليس مراده أنها نبوة باقية ، بل أنها لما أشبهتها من جهة الاطلاع على بعض الغيوب لا ينبغي أن يتكلم فيها بغير علم ، فلذلك الشبه سميت جزءا من النبوة ، ولا يلزم من إثبات الجزء لشيء إثبات الكل له ، كما مر تحقيقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية