الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت تحريم الخمر بنص الكتاب والسنة ، فيحرم قليلها وكثيرها معا ، صرفا وممزوجة . وحكي عن الحسن البصري وطائفة من المتكلمين : أنها تحرم إذا كانت صرفا ، ولا تحرم إذا مزجت بغيرها . لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : حرمت الخمر بعينها ، والسكر من كل شراب . قالوا : وليست الممزوجة بعينها ، فلم يتوجه إليها التحريم . وهذا تأويل فاسد وذلك ظاهر : لما قدمناه من عموم النص في الكتاب والسنة ، ولو حلت بالمزج لبطل مقصود التحريم ، ولجاز إذا ألقي فيها حصاة أو عود أن تحل ، ولتوصل إلى مراد شربها إلى الاستباحة ، ولم يكن للنصوص فيها تأثير ، وسنذكر معنى الحديث من بعد . فإذا تقرر هذا لم يخل حال شاربها من أن يستحل شربها أو لا : فإن شربها مستحلا ، كان كافرا باستحلالها : لأنه استحل ما حرمه النص . فيجري عليه حكم المرتد في القتال إن لم يتب . وإن شربها غير مستحل لم يكفر . وتعلق بشربها ثلاثة أحكام : [ ص: 286 ] أحدها : مأثم التحريم . والثاني : الفسق بالخروج من العدالة . والثالث : وجوب الحد على ما سنذكره . وسواء سكر من شربها أو لم يسكر . وزعم قوم أن الحد فيها تعزير ، ويجوز أن يقام عليه ، ويجوز أن يعفى عنه ، وليس كما زعموا ، بل هو حد . روى شعبة ، عن قتادة ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر أربعين . فإن تكرر منه الشرب قبل الحد ، أقيم عليه حد واحد . فإن تكرر منه الشرب بعد الحد ، كرر عليه الحد ولم يقتل . وروى الشافعي ، عن سفيان ، عن الزهري ، عن قبيصة بن ذؤيب يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاقتلوه . قالوا : فأتي برجل قد شرب الخمر فجلده ، ثم أتي به الثانية فجلده ، ثم أتي به الثالثة فجلده ، ثم أتي به الرابعة فجلده ، ووضع القتل فكانت رخصة . ثم قال الزهري لمنصور بن المعتمر ، ومخول بن راشد : كونا وافدي العراق بهذا الحديث وغيره . قال الشافعي : فالقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره . وإنما قال : وغيره : لأن هذا الحديث مرسل . والمراسيل عنده ليست بحجة ، واختلف فيما أراده بغيره على وجهين : أحدهما : حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير نفس . وقد أشار إليه الشافعي في كتاب الأم . والثاني : أراد ما رواه محمد بن إسحاق ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاقتلوه . فأتي برجل قد شرب الخمر فجلده ، ثم أتي به الثانية فجلده ، ثم أتي به الثالثة فجلده ، ثم أتي به الرابعة فجلده ، ووضع القتل . وقد روى زكريا الساجي هذا الحديث ، وسمى الرجل بنعمان . [ ص: 387 ] وهذا الحديث مسند ، ولم يروه الشافعي ، وإن أشار إليه . فثبت أن القتل منسوخ ، فهذا حكم الخمر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية