الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
فإذا تقرر ما ذكرنا فقد اختلف الفقهاء في مقدار حده .
فذهب الشافعي إلى أن nindex.php?page=treesubj&link=17197_33469حد الخمر أربعون ، لا يجوز أن ينقص منها ، وما زاد عليها إلى الثمانين تعزير ، يقف على اجتهاد الإمام لا يزيد عليها ، ويجوز أن ينقص منها .
وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وسفيان الثوري : nindex.php?page=treesubj&link=17197_33469حد الخمر ثمانون كالقذف ، ولا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها : استدلالا برواية سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، nindex.php?page=hadith&LINKID=924790أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو الأربعين . وفعله أبو بكر ، فلما كان عمر استشار الناس ، فقال عبد الرحمن بن عوف : أخف الحدود ثمانون . فأخذ بها عمر . فصار اجتهاد الصحابة موافقا لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن الأربعين بالجريدتين ثمانون .
وروى أبو سعيد الخدري nindex.php?page=hadith&LINKID=924791أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بنعلين أربعين ، فلما كان زمن عمر جلد بدل كل نعل سوطا فدل على أن اجتهاد الصحابة كان في صفة الحد لا في عدده .
وقد روى محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، nindex.php?page=hadith&LINKID=924792أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد شارب الخمر ثمانين وهذا نص . [ ص: 413 ] ومن الاعتبار أنه حد يجب على الحر ، فلم يتقدر بالأربعين كالقذف ، ولأن حد القذف أخف ، وحد الشرب أغلظ لما في النفوس من الداعي إليه ، وغلبة الشهوة عليه ، فكان إن لم يزد عليه فأولى أن لا ينقص عنه ، ولأن nindex.php?page=treesubj&link=33470الزيادة على الأربعين لو كانت تعزيرا لم يجز أن تبلغ أربعين ، لأن التعزير لا يجوز أن يكون مساويا للحد .
ودليلنا : مع ما قدمناه في صدر الباب من حديث عبد الرحمن بن أزهر ، ما رواه حصين بن المنذر أبو ساسان الرقاشي ، قال : شهدت عثمان بن عفان ، وقد أتي بالوليد بن عقبة ، فشهد عليه حمران ورجل آخر . شهد أحدهما أنه شرب الخمر ، وشهد الآخر أنه تقيأها . فقال عثمان : ما تقيأها حتى شربها . فقال لعلي : أقم عليه الحد .
فقال علي للحسن : أقم عليه الحد . فقال الحسن : ول حارها من تولى قارها . أي : ولي صعبها من تولى سهلها .
فقال علي لعبد الله بن جعفر : أقم عليه الحد . فجلده عبد الله بالسوط وعلي يعد ، فلما بلغ أربعين قال : حسبك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين ، وجلد أبو بكر أربعين ، وجلد عمر ثمانين ، وكل سنة أحب إلي . وهذا نص من وجهين :
أحدهما : ما أخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اقتصاره على الأربعين .
والثاني : إخباره بأن كلا العددين سنة يعمل بها ويصح التخيير فيها .
ومن القياس : أنه سبب يوجب الحد فوجب أن يختص بعدد لا يشاركه غيره ، كالزنا والقذف .
فإن قيل : فوجب ألا يقدر بأربعين كالزنا والقذف . قيل : nindex.php?page=treesubj&link=33469الحدود موضوعة على الاختلاف في المقدار : لاختلافها في الأسباب ، فجاز لنا اعتبار بعضها ببعض في التفاضل ، ولم يجز اعتبار بعضها ببعض في التماثل .
ولأن nindex.php?page=treesubj&link=24358الحدود تترتب بحسب اختلاف الإجرام ، فما كان جرمه أغلظ كان حده أكثر .
ولأن الزنا لما غلظ جرمه للاشتراك فيه غلظ حده .
والقذف لما اختص كان حده أكثر بالتعدي إلى واحد كان أخف من الزنا . والخمر لما اختص بواحد لم يتعد عنه ، وجب أن يكون أخف من القذف ، فأما الجواب عن حديثي أنس وأبي سعيد فمن وجهين : [ ص: 414 ] أحدهما : اضطراب الحديثين : لأنه لو كان في حد الخمر نص ما اجتهد فيه الصحابة ، ولعملوا فيه على النقل .
والثاني : تحمل الرواية بجريدتين والنعلين ، على أن إحداهما بعد الأخرى : لأن الأولى تقطعت فأخذ الثانية .
وأما الجواب عن حديث علي بن الحسين : فهو مرسل ، لا يلزم ، وفيه نص لم يعمل به لاجتهاد الصحابة فيه ، فصار الإجماع مانعا من العمل به .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن حد القذف أضعف : فهو أن حد القذف أغلظ من وجهين :
أحدهما : أن القذف متعد والشرب غير متعد .
والثاني : أن nindex.php?page=treesubj&link=10046_10481حد القذف من حقوق العباد ، وحد الشرب من حقوق الله تعالى ، وما تعلق بالعباد أغلظ .
وأما الجواب عن قولهم : nindex.php?page=treesubj&link=33470لو كانت الزيادة على الأربعين تعزيرا ما جاز أن يساوي حدا ، فمن وجهين :
أحدهما : أنه لا يبلغ بالتعزير إذا كان سببه واحدا ، فأما إذا كانت الأسباب مختلفة جاز : لأن لكل حكما ، وتعزيره في الخمر لأسباب : لأنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى .
والثاني : أن هذا تعزير ، بعقد إجماع الصحابة عليه في الأربعين ، فصار مخصوصا من غيره .
ثم يقال لأبي حنيفة ألست تقول : إن nindex.php?page=treesubj&link=10613أكثر التعزير تسعة وثلاثون ، ولا يجوز أن يبلغ به الأربعين : لأنه لا يساوي أقل الحدود ؟ فلذلك وجب أن تكون الأربعون حدا .