الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 511 - 512 ] باب الحلف بالعتق [ ص: 513 ] ( ومن قال إذا دخلت الدار فكل مملوك لي يومئذ فهو حر وليس له مملوك فاشترى مملوكا ثم دخل عتق ) لأن قوله يومئذ تقديره يوم إذ دخلت ، إلا أنه أسقط الفعل وعوضه بالتنوين فكان المعتبر قيام الملك وقت الدخول وكذا لو كان في ملكه يوم حلف عبد فبقي على ملكه حتى دخل عتق لما قلنا .

قال ( ولو لم يكن قال في يمينه يومئذ لم يعتق ) [ ص: 514 ] لأن قوله كل مملوك لي للحال والجزاء حرية المملوك في الحال ، إلا أنه لما دخل الشرط على الجزاء تأخر إلى وجود فيعتق إذا بقي على ملكه إلى وقت الدخول ولا يتناول من اشتراه بعد اليمين .

التالي السابق


( باب الحلف بالعتق )

الحلف بالكسر مصدر حلف سماعي ، وله مصدر آخر : أعني حلفا بالإسكان ، يقال حلف حلفا وحلفا ، وتدخله التاء للمرة كقول الفرزدق :

علي حلفة لا أشتم الدهر مسلما ولا خارج من في زور كلام

وقال امرؤ القيس :

حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا فما إن من حديث ولا صال

والمراد بالحلف بالعتق تعليقه بشرط ، ولما كان المعلق قاصرا في السببية عن المنجز قدمه عليه ، ولما جرى المصنف على أن يولي التصرف الذي يصح تعليقه الحلف به كما فعل في الطلاق ولا يضم الكل إلى كتاب الأيمان ليكون أضبط لأحكام التصرف الواحد حيث يجتمع في بابه ولا تتفرق أحكامه في الأبواب أولى العتق الحلف به . [ ص: 513 ] واعلم أن بعض من لا يجيز تعليق الطلاق بالملك قبل الملك أجازه في العتق .

روي ذلك عن أحمد للفرق بأن الشارع متشوف إلى العتق دون الطلاق وعندنا المصحح مطرد فيهما .

( قوله ومن قال : إذا دخلت الدار فكل مملوك لي يومئذ فهو حر ولم يكن له مملوك فاشترى مملوكا ثم دخل عتق ) أي ذلك المملوك الذي اشتراه ، ولما كان عتق غير المملوك لا يكون بكلام قبل الملك إلا أن يكون إضافة إلى الملك قرره ليرده إليه بقوله ; لأن التنوين في يومئذ عوض عن الجملة المضاف إليها لفظ إذ تقديره إذ دخلت ولفظ يوم ظرف لمملوك فكان التقدير كل من لا يكون في ملكي يوم الدخول حر وهذا في الحقيقة إضافة عتق المملوك يوم الدخول إلى يوم الدخول ، والمملوك لا يكون إلا بملك فصار .

كأنه قال إن ملكت مملوكا وقت الدخول فهو حر ، وهو يصدق بملك قبل الدخول يقارن بقاؤه الدخول فكان إضافة العتق إلى الملك الموجود معنى ، بخلاف قوله لعبد غيره : إن دخلت فأنت حر فاشتراه فدخل لا يعتق لأنه لم يضف العتق إلى ملكه لا صريحا ولا معنى ، وعدول المصنف إلى لفظ وقت عن لفظ يوم في قوله فكان المعتبر قيام الملك وقت الدخول يفيد أن لفظ يوم مراده به الوقت حتى لو دخل ليلا عتق ما في ملكه لأنه أضيف إلى فعل لا يمتد وهو الدخول وإن كان في اللفظ إنما أضيف إلى لفظ إذ المضافة للدخول لكن معنى إذ غير ملاحظ وإلا كان المراد يوم وقت الدخول ، وهو وإن كان يمكن على معنى يوم الوقت الذي فيه الدخول تقييدا لليوم به ، لكن إذا أريد به مطلق الوقت يصير المعنى وقت وقت الدخول ، ونحن نعلم مثله كثيرا في الاستعمال الفصيح كنحو { ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله } ولا يلاحظ فيه شيء من ذلك فإنه لا يلاحظ في هذه الآية وقت وقت يغلبون يفرح المؤمنون ، ولا يوم وقت يغلبون يفرحون ، وله نظائر كثيرة في كتاب الله وغيره فعرف أن لفظ إذ لم يذكر إلا تكثيرا للعوض عن الجملة المحذوفة أو عمادا له : أعني التنوين لكونه حرفا واحدا ساكنا تحسينا ولم يلاحظ معناها ، ومثله كثير في أقوال أهل العربية في بعض الألفاظ لا تخفى على من له نظر فيها ، وكذا لو كان في ملكه عبد حين حلف فبقي في ملكه حتى دخل عتق لما قلنا وفي بعض النسخ لما بينا : أي من أن المعتبر قيام الملك وقت الدخول لا وقت التكلم .

( قوله ولو لم يكن قال في يمينه يومئذ ) بل قال إذا دخلت [ ص: 514 ] فكل مملوك لي حر لا يعتق ما اشتراه بعد التكلم ، بل الذي كان في ملكه وقت التكلم . ووجهه المصنف بقوله لأن قوله كل مملوك لي يختص بالحال والجزاء حرية المملوك في الحال يتعلق في الحال بملوك : أي المملوك في الحال حريته هي الجزاء ، فلما دخل الشرط عليه تأخرت إلى وجود الشرط فيعتق عند الشرط من كان مملوكا عند التكلم .

ووجه كون كل مملوك لي حالا أن المختار في الوصف من اسم الفاعل والمفعول أن معناه قائم حال التكلم بمن نسب إليه على وجه قيامه به أو وقوعه عليه ، واللام للاختصاص : أي الاختصاص من جرت معنى متعلقها إليه : به : أي بمعنى المتعلق وهو مملوك فلزم من التركيب اختصاص ياء المتكلم بالمتصف بالمملوكية للحال وهي أثر ملكه فلزم قيام ملكه في الحال ضرورة اتصافه بأثرها في الحال وإلا ثبت الأثر بلا مؤثر .

هذا ويعتق بقول القائل كل مملوك لي حر العبيد ولو مرهونين أو مأذونين أو مؤجرين والإماء ولو كن حوامل أو أمهات أولاد والمدبرون وأولادهم ، ولا يدخل المكاتب خلافا لزفر لأنه مملوك من وجه إذ هو حر يدا ، ولو نوى الذكور فقط لم يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر في عرف الاستعمال ، ويصدق ديانة مع أن طائفة من الأصوليين على أن جمع الذكور يعم النساء حقيقة ووضعا ولا يدخل المملوك المشترك ولا الجنين إلا أن يعنيهم ولا عبيد عبد التاجر ، وهو قول أبي يوسف إلا أن ينويهم ، وسواء كان على العبد التاجر دين أو لا ، وفي قول محمد يعتقون نواهم أو لا عليه دين أو لا .

وعلى قول أبي حنيفة إن لم يكن عليه دين عتقوا إذا نواهم وإلا فلا ، وإن كان عليه دين لم يعتقوا ولو نواهم . ولو قال : عنيت ما يستقبل عتق ما كان في ملكه وما سيملكه إذا ملكه لأن قصد تغيير ما يدل عليه ظاهر لفظه فلم تعتبر نيته في إبطال حكم الظاهر واعتبرنا اعترافه لإثبات العتق فيما يستقبل ، ولا يخفى أن التعليل يرشد إلى أن عتق ما هو في ملكه مع هذه النية إنما هو في القضاء .

وفي الذخيرة : قال مماليكي كلهم أحرار ونوى الرجال دون النساء لم يذكره ، وقالوا لا يصدق ديانة ، بخلاف قوله كل مملوك لي ونوى التخصيص يصدق ديانة انتهى .

فإن قلت : ما الفرق وفي الوجهين تخصيص العام ؟ فالجواب أن كلهم تأكيد للعام قبله وهو مماليكي ; لأنه جمع مضاف فيعم وهو يرفع احتمال المجاز غالبا والتخصيص يوجب المجاز فلا يجوز ، بخلاف : كل مملوك لي فإن الثابت به أصل العموم فقط فقبل التخصيص .




الخدمات العلمية