مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " فإذا كان مثل السبب الذي قضى فيه عليه الصلاة والسلام بالقسامة ، حكمت بها وجعلت الدية فيها على المدعى عليهم . فإن قيل : وما السبب الذي حكم فيه النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قيل : كانت
خيبر دار
يهود محضة لا يخالطهم غيرهم ، وكانت العداوة بين
الأنصار وبينهم ظاهرة ، وخرج
عبد الله بعد العصر فوجد
[ ص: 8 ] قتيلا قبل الليل ، فيكاد يغلب على من سمع هذا أنه لم يقتله إلا بعض
اليهود . فإذا كانت دار قوم محضة ، أو قبيلة ، وكانوا أعداء للمقتول فيهم - وفي كتاب
الربيع : أعداء للمقتول أو قبيلته - ووجد القتيل فيهم ، فادعى أولياؤه قتله فلهم القسامة " .
قال
الماوردي : قد ذكرنا أن الحكم بالقسامة في إحلاف المدعي يكون مع اللوث ، وينتفي مع عدمه .
nindex.php?page=treesubj&link=9464واللوث : ما شهد بصدق المدعي ودل على صحة الدعوى من الأسباب المقترنة بها ، ولا يتخالج النفس شك فيها .
وذلك يكون من جهات شتى ، قد ذكر
الشافعي رضي الله عنه بعضها : لتكون دليلا على نظائرها ، فمنها : مثل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتيل
الأنصار بين
اليهود : لأن
خيبر كانت دار
يهود محضة ، وكانت العداوة بين
الأنصار وبينهم ظاهرة بالذب عن الإسلام ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفارق
عبد الله أصحابه فيها بعد العصر ، ووجد قتيلا قبل الليل ، فتغلب في النفس أنه ما قتله غير
اليهود ، فيكون لوثا يحكم فيه بقول المدعي .
وقال
مالك : لا يكون اللوث المحكوم فيه بالقسامة إلا من أحد وجهين :
أحدهما : أن يشهد به من لا تكمل به الشهادة . وهذا موافق عليه .
والثاني : - وهو الذي تفرد به - أن يقول المقتول قبل فراقه للدنيا : دمي عند فلان . فيكون هذا لوثا دون ما عداهما .
احتجاجا لهذا بأن الله تعالى حكم في قصة القتيل من
بني إسرائيل بمثله في البقرة ، من قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=73فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى [ البقرة : 73 ] ، فضرب بها فحيا ، وقال : قتلني فلان . فقتله
موسى عليه السلام به . قال : ولأن المقتول مع فراق الدنيا أصدق ما يكون قولا ، وأكثر ما يكون تحرجا ، فلا تتوجه إليه تهمة . وهذا لا يكون لوثا عندنا : لأن اللوث : ما اقترن بالدعوى من غير جهة المدعي ، كالذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتيل
الأنصار ، ولأنه لو قبل قوله إذا مات ، لقبل قوله إذا اندمل جرحه وعاش . ولو قبل في الدم لقبل في المال ، ولأنه ربما قاله لعداوة في نفسه ، بحيث أن لا يعيش عدوه بعد موته ، أو لفقر قربته ، فأحب أن يستغنوا بالدية من بعده . فأما قصة البقرة في بني إسرائيل ، فتلك قصة أحيا الله بها القتيل معجزة لموسى ، ولو كان مثلها لجعل لوثا ، ولكنه مستحيل .
وأما انتفاء التهمة عنه فباطل بدعوى الحال : ولأن
مالكا يورث المبتوتة في مرض الموت لتهمة الزوج ، فيلحق به التهمة في حال وينفيها عنه في حال ، فتعارضا قولاه فبطلا .
[ ص: 9 ]
مَسْأَلَةٌ : قَالَ
الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " فَإِذَا كَانَ مِثْلَ السَّبَبِ الَّذِي قَضَى فِيهِ عَلَيْهِ الصَلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْقَسَامَةِ ، حَكَمْتُ بِهَا وَجَعَلْتُ الدِّيَةَ فِيهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : وَمَا السَّبَبُ الَّذِي حَكَمَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قِيلَ : كَانَتْ
خَيْبَرُ دَارَ
يَهُودَ مَحْضَةٍ لَا يُخَالِطُهُمُ غَيْرُهُمْ ، وَكَانَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ
الْأَنْصَارِ وَبَيْنَهُمْ ظَاهِرَةً ، وَخَرَجَ
عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَوُجِدَ
[ ص: 8 ] قَتِيلًا قَبْلَ اللَّيْلِ ، فَيَكَادُ يَغْلِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ إِلَّا بَعْضُ
الْيَهُودِ . فَإِذَا كَانَتْ دَارَ قَوْمٍ مَحْضَةً ، أَوْ قَبِيلَةً ، وَكَانُوا أَعْدَاءً لِلْمَقْتُولِ فِيهِمْ - وَفِي كِتَابِ
الرَّبِيعِ : أَعْدَاءً لِلْمَقْتُولِ أَوْ قَبِيلَتِهِ - وَوُجِدَ الْقَتِيلُ فِيهِمْ ، فَادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ قَتْلَهُ فَلَهُمُ الْقَسَامَةُ " .
قَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُكْمَ بِالْقَسَامَةِ فِي إِحْلَافِ الْمُدَّعِي يَكُونُ مَعَ اللَّوْثِ ، وَيَنْتَفِي مَعَ عَدَمِهِ .
nindex.php?page=treesubj&link=9464وَاللَّوْثُ : مَا شَهِدَ بِصِدْقِ الْمُدَّعِي وَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَا ، وَلَا يَتَخَالَجُ النَّفْسَ شَكٌّ فِيهَا .
وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ جِهَاتٍ شَتَّى ، قَدْ ذَكَرَ
الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْضَهَا : لِتَكُونَ دَلِيلًا عَلَى نَظَائِرِهَا ، فَمِنْهَا : مِثْلُ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتِيلِ
الْأَنْصَارِ بَيْنَ
الْيَهُودِ : لِأَنَّ
خَيْبَرَ كَانَتْ دَارَ
يَهُودَ مَحْضَةً ، وَكَانَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَ
الْأَنْصَارِ وَبَيْنَهُمْ ظَاهِرَةً بِالذَّبِّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَنُصْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفَارَقَ
عَبْدُ اللَّهِ أَصْحَابَهُ فِيهَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَوُجِدَ قَتِيلًا قَبْلَ اللَّيْلِ ، فَتَغَلَّبَ فِي النَّفْسِ أَنَّهُ مَا قَتَلَهُ غَيْرُ
الْيَهُودِ ، فَيَكُونُ لَوْثًا يُحْكَمُ فِيهِ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي .
وَقَالَ
مَالِكٌ : لَا يَكُونُ اللَّوْثُ الْمَحْكُومُ فِيهِ بِالْقَسَامَةِ إِلَّا مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَشْهَدَ بِهِ مَنْ لَا تَكْمُلُ بِهِ الشَّهَادَةُ . وَهَذَا مُوَافَقٌ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : - وَهُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ - أَنْ يَقُولَ الْمَقْتُولُ قَبْلَ فِرَاقِهِ لِلدُّنْيَا : دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ . فَيَكُونُ هَذَا لَوْثًا دُونَ مَا عَدَاهُمَا .
احْتِجَاجًا لِهَذَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ فِي قِصَّةِ الْقَتِيلِ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمِثْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=73فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى [ الْبَقَرَةِ : 73 ] ، فَضُرِبَ بِهَا فَحَيَا ، وَقَالَ : قَتَلَنِي فَلَانٌ . فَقَتَلَهُ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ . قَالَ : وَلِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَعَ فِرَاقِ الدُّنْيَا أَصْدَقُ مَا يَكُونُ قَوْلًا ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ تَحَرُّجًا ، فَلَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ تُهْمَةٌ . وَهَذَا لَا يَكُونُ لَوْثًا عِنْدَنَا : لِأَنَّ اللَّوْثَ : مَا اقْتَرَنَ بِالدَّعْوَى مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْمُدَّعِي ، كَالَّذِي قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتِيلِ
الْأَنْصَارِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَ قَوْلُهُ إِذَا مَاتَ ، لَقُبِلَ قَوْلُهُ إِذَا انْدَمَلَ جُرْحُهُ وَعَاشَ . وَلَوْ قُبِلَ فِي الدَّمِ لِقُبِلَ فِي الْمَالِ ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا قَالَهُ لِعَدَاوَةٍ فِي نَفْسِهِ ، بِحَيْثُ أَنْ لَا يَعِيشَ عَدُوُّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، أَوْ لِفَقْرِ قُرْبَتِهِ ، فَأَحَبَّ أَنْ يَسْتَغْنُوا بِالدِّيَةِ مِنْ بَعْدِهِ . فَأَمَّا قِصَّةُ الْبَقَرَةِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَتِلْكَ قِصَّةٌ أَحْيَا اللَّهُ بِهَا الْقَتِيلَ مُعْجِزَةً لِمُوسَى ، وَلَوْ كَانَ مِثْلُهَا لَجُعِلَ لَوْثًا ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ .
وَأَمَّا انْتِفَاءُ التُّهْمَةِ عَنْهُ فَبَاطِلٌ بِدَعْوَى الْحَالِ : وَلِأَنَّ
مَالِكًا يُورِّثُ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ لِتُهْمَةِ الزَّوْجِ ، فَيُلْحِقُ بِهِ التُّهْمَةَ فِي حَالٍ وَيَنْفِيهَا عَنْهُ فِي حَالٍ ، فَتَعَارَضَا قَوْلَاهُ فَبَطَلَا .
[ ص: 9 ]