الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          5 - الحـق القانـونـي

          يدعي الصهاينة أنهم اكتسبوا حقا قانونيا في فلسطين نتيجة لصدور وعد بلفور، ثم صك الانتداب، وأخيرا قرار تقسيم فلسطين. ومن المعروف أن بريطانيا أصدرت في الثاني من تشرين الثاني عام 1917م [ ص: 157 ] تصريحا وجهه اللورد بلفور [1] وزير خارجية بريطانيا إلى اللورد (روتشلد) يعد فيه اليهود، بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وهذا نصه: (إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين الارتياح، إلى إنشاء وطن قومي في فلسطين، للشعب اليهودي، وستبذل أطيب مساعيها لتسهيل بلوغ هـذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية، التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين -اليهود شعب وغيرهم مجرد طوائف- أو يؤثر على الحقوق، أو الوضع السياسي، الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى. وأكون شاكرا لو تفضلتم فأبلغتم هـذا القرار إلى الاتحاد الصهيوني) وما يدري إلا الله كيف يقام للصهاينة وطن قومي في فلسطين، دون أن يؤثر ذلك على حقوق أهلها. على أي حال يدعي اليهود أن الصياغة لهم، فأنعم وأكرم، أما الضمير البريطاني فيبدو أنه ميت، أو نائم نوم أهل الكهف، ولا أحد يعلم متى يصحو، وقد سبب لأهل فلسطين والمنطقة كل هـذا البلاء. إنه تبرع من طرف، يقدم لطرف ثان، أرض طرف ثالث، فهل سمع العالم بمثل هـذا (الكرم) ؟. [ ص: 158 ]

          وإذا كان هـذا (التبرع) ينشئ، حقوقا، فيمكن غدا أن يتبنى المؤتمر الإسلامي بكافة دوله قرارا مماثلا، بحيث تكون قبرص كلها من نصيب الأتراك ، ويمكن لمنظمة الوحدة الأفريقية، أن تمنح الحبشة هـدية إلى جنوب أفريقيا ، فهل ينشئ هـذا التبرع السخي حقوقا؟؟ وأخيرا أثبت هـنا تصريحا لبلفور يقول فيه [2] : (لا ريب أن الصهيونية سواء أكانت على حق أم على باطل، وسواء أكانت طيبة أم شريرة - هـي مثل بريطانيا ولا نعرف أيهما أخبث - عميقة الجذور في تقاليدنا، وفي حاجاتنا الراهنة، وفي آمالنا المقبلة، وهي أكثر أهمية لنا من رغبات السبعمائة ألف من العرب) . وإذا كانت الصهيونية هـكذا لماذا لم تمنحوها قطعة من بريطانيا، أو مستعمرة من مستعمراتكم؟؟.

          ويعلق رئيس الوزراء البريطاني (لويد جورج) على الإعلان قائلا [3] (كان إعلان تصريح بلفور أمرا اقتضته موجبات الدعاية) . وأعظم بها حجة أخلاقية، فنكبة شعب، وسلب أرضه، وتشريد بنيه، وزج المنطقة بحروب متصلة، كل ذلك معقول أمام (الدعاية) ومع ذلك ما زال من قادة العرب من يحج إلى لندن ، ويطلب المشورة والمباركة في كل عمل ينوي فعله ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) والإنسان الذي لا يفرق بين الصديق والعدو فهو أعمى. ومع كل ذلك فالتصريح أو الوعد يصطدم مع التزامات بريطانيا بمساعدة العرب، في الحصول على الاستقلال عن تركيا ، حين قاتلوا بهذا الهدف، كما يتضح من [ ص: 159 ] مراسلات الشريف حسين مع السير (مكماهون) المندوب السامي البريطاني في مصر وعددها (10) رسائل.

          كما يناقض معاهدة (بطرسبرج) [4] التي جرت بين بريطانيا وروسيا وفرنسا عام 1916م، وفيها تعهد الجميع بالعمل يدا واحدة، في سبيل إنقاذ البلاد العربية وحمايتها، وتأليف حكومة إسلامية مستقلة منها، تتولى بريطانيا مراقبتها وإدارتها، كما يناقض الوعد معاهدة (سايكس بيكو) السرية عام 1916م والتي تعتبر مكملة لمعاهدة بطرسبرج، ومن البنود [5] (3-تنشأ إدارة دولية في المنطقة السمراء (فلسطين) بعد استشارة روسيا، والاتفاق مع الحلفاء، وممثلي شريف مكة) . فهذه الاتفاقات (معاهدة بطرسبرج، وسايكس بيكو والمراسلات تصطدم كليا مع وعد بلفور. والعلماء يقولون: الأدلة إذا تعارضت تساقطت، كما يخالف الوعد ميثاق عصبة الأمم، فأي قيمة قانونية لمثل هـذا الوعد؟

          وكم من وعد مثله أعطي للعرب ثم لحسه كتابه ولم ينفذ شيء منه؟! والحجة الثانية هـي (صك الانتداب البريطاني على فلسطين) فهل تملك العصبة هـذا الحق؟ لنقرأ الفقرة (4) من ميثاق العصبة (بعض الشعوب التي كانت خاضعة للإمبراطورية التركية، قد وصلت إلى درجة من التقدم يمكن معها الاعتراف مؤقتا بكيانها كأمم مستقلة، خاضعة لقبول الإرشاد الإداري، والمساعدة من قبل الدول المنتدبة [6] ، حتى ذلك الوقت الذي تصبح فيه هـذه الشعوب، قادرة [ ص: 160 ] على النهوض وحدها، ويجب أن يكون لرغبات هـذه الشعوب، المقام الأول في اختيار الدولة المنتدبة) ا هـ من المعلوم أن الوعد من إعداد اليهود، وكذلك صك الانتداب، يوم كان الطرفان (صهاينة وإنكليز) في شهر العسل من زواجهم غير المبارك، والذي كان المهر فيه مصالح العرب، وشعب فلسطين، وأرض فلسطين، أما رغبات الشعوب التي جرى الانتداب عليها، فلم يسأل عنها أحد حتى اليوم. وقد (كيفت) الكاتبة اليهودية الأمريكية (بربارة توخمان) الوعد و (الانتداب) على الشكل التالي [7] (إن الانتداب لا وعد بلفور، هـو الذي فسح في القانون العام مجالا لإعادة إسرائيل إلى فلسطين (أين كانت إسرائيل منذ ألوف السنين علما بأن زعماء إسرائيل يدعوا بأنهم أقاموا الدولة بجهودهم، وليس عن طريق الانتداب أو العصبة أو غيرهما فما قول (بربارة) ؟) إن وعد بلفور كان إعلانا لسياسة فقط، وكان بالإمكان لأي وزارة بريطانية تالية أن تتجاهله، أو أن تدع الزمن يمر عليه، أو ترفضه، ولكن الانتداب (أي إدخال الوعد في صك الانتداب) كان التعهد الدولي الذي وقعته دول الحلفاء الكبرى، التي كانت تعمل باسم عصبة الأمم، ثم أكدت فرفعته بذلك، بعد أن وضعته في صك الانتداب إلى مستوى المعاهدات) ا هـ.

          ونلاحظ أولا أن الانتداب جرى رغم معارضة العرب له. ومع ذلك فهل من حق الدولة المنتدبة، من أجل المساعدة الإدارية، أن تهب البلاد لمن تشاء، وتغير في وضعها السياسي والاجتماعي والسكاني؟؟

          وهل هـناك سابقة في العالم تشبه ذلك؟ [ ص: 161 ]

          إن الانتداب لا يمنح بريطانيا ولا غيرها حق التصرف بما انتدبت عليه، بل المطلوب الأخذ بيد المواطنين وتأهيلهم للاستقلال فقط. وحق تقرير المصير ، الذي أقر بعد الحرب العالمية الأولى، وكان حجر الزاوية في تنظيم المجتمع الدولي، هـذا الحق أين ذهب؟؟ ولماذا اغتيل؟ ولمصلحة من؟؟

          إن صك الانتداب لم تضعه عصبة الأمم، بل بريطانيا والصهاينة، وهذا (هربرت صموئيل) أول مندوب سامي بريطاني على فلسطين يتحدث بصراحة فيقول [8] : (لقد عينت مندوبا ساميا لجلالته في فلسطين، وحكومة جلالته على دراية تامة بعواطفي الصهيونية -وهي مثلك أو أقبح- بل لا شك أنني عينت في هـذا المنصب بسبب هـذه العواطف) ا هـ. ويقول عنه وايزمن [9] (إن هـربرت صموئيل نتاج يهوديتنا، ونحن الذين عيناه مندوبا ساميا في فلسطين، لتنفيذ مخططات الصهيونية) ا هـ. [ ص: 162 ]

          وكان الانتداب يوجب تكوين حكومة عربية في فلسطين، والمساعدة في تدريبها وترقيتها، وكل ذلك لم يحصل. فأي حق يمكن أن يعطيه الانتداب للصهاينة ، وهم الذين ثاروا على الإنكليز - بعد انتهاء شهر العسل - قاتلوهم، حتى قام الإرهابي (بيغن) بنسف فندق داود في القدس على من فيه؟ وبقي عشرات السنين لا يدخل بريطانيا. فأي حق يمكن أن يكسبوه من الانتداب، وهذا موقفهم منه؟؟ وأخيرا قامت بريطانيا بإعلان عجزها عن القيام بمهام الانتداب، ففي 26 / 9 / 1947م أعلنت أنها آخذة بالخروج من فلسطين بأسرع ما يمكن لعجزها عن القيام بمهام الانتداب، ثم قامت بالفعل بسحب قواتها في 1 / 3 /1948م، ومع الانسحاب راحت تسلم الذخيرة والمطارات وغيرها للوكالة اليهودية، حيث ساهمت بقيام إسرائيل وقوتها.

          وفي 15 أيار 1948م غادر المندوب البريطاني ميناء حيفا فجأة، معلنا نهاية الانتداب على فلسطين ، وليس من حقه ذلك. ولقد علق المؤرخ توينبي قائلا [10] : (إن بريطانيا تستحق الإدانة بسبب ما اقترفته من تعام وإهمال متعمد، بالنسبة لكارثة فلسطين) . وهكذا توالت الخطوات المدروسة، والتي كانت كلها تصب في الحوض الإسرائيلي، وتخدم الصهاينة، وتضع العرب في أسوأ وأصعب حال.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية