الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين .

[102] فلما بلغ معه السعي يعني: المشي معه في الجبل، وكان له ثلاث عشرة سنة، أو سبع قال يا بني قرأ حفص عن عاصم : (يا بني) بفتح الياء، والباقون: بكسرها .

إني أرى أي: رأيت في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى من الرأي. قرأ نافع ، وأبو جعفر ، وابن كثير ، وأبو عمرو : (إني أرى) (أني أذبحك) بنصب الياء فيهما، والباقون: بإسكانها ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : (ماذا تري) بضم التاء وكسر الراء كسرة خالصة بعدها ياء; أي: ماذا تريناه من رأيك، أتجزع أم تصبر؟ وقرأ الباقون: بفتح التاء والراء، وأبو عمرو : يميل فتحة الراء، وورش : بين بين على أصلهما، والباقون: بإخلاص فتحها ، وليس كرأي العين على القراءتين، وإنما [ ص: 532 ] شاور ولده; ليعلم صبره، لا ليصبره، وشاوره ليأنس بالذبح; فإن صدور العظيم بغتة عظيم، وليحصل له الأجر بانقياده لطاعة الله وطاعة والده.

قال يا أبت افعل ما تؤمر به ستجدني إن شاء الله من الصابرين على ذلك، ومن أسند المشيئة إلى الله تعالى، والتجأ إليه، لم يعطب. قرأ أبو جعفر ، وابن عامر : (يا أبت) بفتح التاء، ووقفا: (يا أبه) بالهاء، وافقهما في الوقف ابن كثير ، ويعقوب ، وقرأ نافع ، وأبو جعفر : (ستجدني) بفتح الياء: والباقون: بإسكانه .

والذبيح هو إسماعيل -عليه السلام- على قول الجمهور، وهو الراجح; بدليل أن ذكر البشارة بإسحاق -عليه السلام- بعد الفراغ من قصة المذبوح، فقال تعالى: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين فدل على أن المذبوح غيره، وأيضا فإن الله تعالى قال في سورة هود: فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [الآية: 71] فلما بشره بإسحاق، بشره بابنه يعقوب ، فكيف يأمره بذبح إسحاق، وقد وعد له بنافلة منه، وهو قول العباس بن [ ص: 533 ] عبد المطلب، وابنه، وعبد الله بن عمر ، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والحسن البصري، ومجاهد، وغيرهم .

وروي عن معاوية أنه ذكر عنده: هل الذبيح إسماعيل أو إسحاق؟ قال: على الخبير سقطتم، كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل فقال له: يا ابن الذبيحين! فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل لمعاوية: يا أمير المؤمنين! وما الذبيحان؟ فقال: إن عبد المطلب لما حفر زمزم، نذر لئن سهل الله له أمرها، ليذبحن أحد أولاده، قال: فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله، فقالوا له: افد ابنك بمئة من الإبل، ففداه، والثاني إسماعيل عليه السلام .

وعن بعض علماء اليهود ممن أسلم وحسن إسلامه: أن علماء اليهود يعلمون أنه إسماعيل، ولكنهم يحسدون العرب أن يكون أبا لهم .

وعند أهل الكتابين أن الذبيح إسحاق، وهو قول عمر ، وعلي، [ ص: 534 ] وابن مسعود، وكعب، ومقاتل، وقتادة، وعكرمة، والسدي، وغيرهم، واحتجوا بقوله تعالى: فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا أمر بذبح من بشر به، وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى إسحق، وهو قوله تعالى في سورة هود: فبشرناها بإسحاق [الآية: 71] ، وكلا القولين يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

وروي أنه لما بشر بالولد، قال: هو بإذن الله ذبيح. فلما بلغ معه السعي قيل له: أوف بنذرك، فقال لولده: انطلق نقرب قربانا لله - عز وجل -، وأخذ سكينا وحبلا، فانطلق معه حتى ذهب بين الجبال، فقال: يا أبت! أين قربانك؟ قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ، فمن قال: إن الذبيح إسماعيل، فيقول: إن الذبح كان بمكة، ومن الدليل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج.

قال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحق كان أو إسماعيل؟ فقال: يا أصيمع! أين ذهب عقلك؟ متى كان إسحق بمكة؟ إنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه .

وعن ابن عباس قال: الذبيح إنه إسماعيل، وتزعم اليهود أنه إسحق، وكذبت اليهود . [ ص: 535 ]

ومن زعم أن إسحق هو الذبيح، فيقول: كان موضع الذبح بالشام على ميلين من إيلياء، وهي بيت المقدس، وزعمت اليهود أنه كان على صخرة بيت المقدس، فأراد الشيطان فتنتهم، فجاء أم الغلام على صورة رجل، فقال: تدرين أين ذهب بابنك؟ قالت: ذهب به يحتطب، قال: لا والله ما ذهب به إلا ليذبحه، قالت: كلا، هو أرحم به، وأشد حبا له من ذلك، قال: زعم أن الله أمره بذلك، قالت: فإن أمره بذلك، فقد أحسن أن يطيع ربه، فأتى الابن فقال: تدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: يحتطب، قال: لا والله ما يريد إلا ذبحك، قال: ولم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك، قال: فليفعل ما أمره به، فسمعا وطاعة، ثم جاء الأب فقال: أين تريد؟ فقال: هذا الشعب لحاجة، قال: أرى الشيطان قد جاءك مناما، فأمرك بذبح ابنك هذا، فعرفه، فقال: إليك عني يا عدو الله، فوالله لأمضين لأمر ربي، فرجع إبليس بغيظه، لم يصب من إبراهيم وأهله شيئا مما أراد.

وروي أن إبليس عرض لإبراهيم بهذا المشعر، فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم ذهب إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الكبرى، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى إبراهيم -عليه السلام- لأمر الله تعالى، ومنه شرع رمي الجمار في الحج، وهو من واجبات الحج، يجب بتركه الفدية باتفاق الأئمة. ولما عزما على الذبح، قال: يا أبتاه! اشدد وثاقي لئلا أضطرب، واجمع عليك ثيابك لئلا يصيبها دمي، واستحد شفرتك، وأسرع مرها على حلقي، فهو أهون علي ، وسلم على أمي، واردد عليها قميصي; فهو أسلى لها، فقال: [ ص: 536 ]

نعم العون أنت يا بني على أمر الله تعالى، ففعل ما أمر به ابنه، وقبله بين عينيه وقد ربطه وهو يبكي.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية