العيوب والآفات الملازمة للغلو في الدين
وما كان هـذا التحذير من التطرف والغلو إلا لأن فيه عيوبا وآفات أساسية تصاحبه وتلازمه. منها:
العيب الأول
أنه منفر لا تحتمله طبيعة البشر العادية، ولا تصبر عليه، ولو صبر عليه قليل منهم لم يصبر عليه جمهورهم، والشرائع إنما تخاطب الناس كافة، لا فئة ذات مستوى خاص، ولهذا ( غضب النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبه الجليل " معاذ " حين صلى بالناس فأطال حتى شكاه أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له: أفتان أنت يا معاذ؟! ) وكررها ثلاثا [1]
وفي واقعة مماثلة قال للإمام في غضب شديد لم يغضب مثله: ( إن منكم منفرين... من أم بالناس فليتجوز، فإن خلفه الكبير والضعيف وذا الحاجة ) [2]
ولهذا ( لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى إلى اليمن أوصاهما بقوله: ) [ ص: 29 ] ( يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا... ) [3]
" وقال عمر رضي الله عنه : لا تبغضوا لله إلى عباده، فيكون أحدكم إماما فيطول على القوم الصلاة حتى يبغض إليهم ما هـم فيه. "
والعيب الثاني
أنه قصير العمر، والاستمرار عليه في العادة غير متيسر، فالإنسان ملول، وطاقته محدودة، فإن صبر يوما على التشدد والتعسير، فسرعان ما تكل دابته أو تحرن عليه مطيته في السير.. وأعني بهما جهده البدني والنفسي, فيسأم ويدع العمل حتى القليل منه. أو يأخذ طريقا آخر، على عكس الطريق الذي كان عليه.. أي ينتقل من الإفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التسيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكثيرا ما رأيت أناسا عرفوا بالتشدد والتطرف حينا، ثم غبت عنهم أو غابوا عني زمنا فسألت عنهم بعد، فإما ساروا في خط آخر، وانقلبوا على أعقابهم، والعياذ بالله.. وإما قد فتروا وانقطعوا كالمنبت الذي جاء ذكره في الحديث ( فلا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ) [4] يريد بالمنبت الذي انقطع عنه رفقته بعد أن أجهد دابته.
ومن هـنا كان التوجيه النبوي بقوله صلى الله عليه وسلم : ( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا.. وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ) [5]
( وعن ابن عباس قال: كانت مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار وتقوم الليل فقيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل! فقال صلى الله عليه وسلم : إن لكل عمل شرة ) [ ص: 30 ] ( (حدة ونشاطا) ولكل شرة فترة (استرخاء وفتورا) فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل ) [6]
وروى أحمد ( عن عبد الله بن عمرو قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجال ينصبون في العبادة من أصحابه نصبا شديدا، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : تلك ضراوة الإسلام وشرته، ولكل ضراوة شرة، ولكل شرة فترة.. فمن كانت فترته إلى الكتاب والسنة فلآم ما هـو.. ومن كانت فترته إلى معاصي الله فذلك الهالك ) [7]
وفي رواية الطبراني لهذا الحديث:... ( فمن كانت فترته إلى اقتصاد، فنعم ما هـو... ومن كانت فترته إلى المعاصي فأولئك هـم الهالكون ) .
وما أجمل الوصية النبوية العامة لكل المكلفين: الوصية بالقصد والاعتدال، وأن لا يحاولوا أن يغالبوا الدين، فيغلبهم، وأن يقاوموه بشدة، فيقهرهم، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا... ) [8]
وقال العلامة المناوي في شرحه: يعني لا يتعمق أحد في العبادة ويترك الرفق كالرهبان، إلا عجز، فيغلب.. " فسددوا " أي: الزموا السداد، وهو الصواب بلا إفراط ولا تفريط.. " وقاربوا " أي: إن لم تستطيعوا [ ص: 31 ] الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه " وأبشروا " أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قل. اه.
والعيب الثالث
أنه لا يخلو من جور على حقوق أخرى يجب أن ترعى، وواجبات يجب أن تؤدى.. وما أصدق ما قاله أحد الحكماء: ما رأيت إسرافا إلا وبجانبه حق مضيع... ( وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكا أنساه حق أهله عليه: ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟
قال عبد الله: فقلت بلى يا رسول الله.. فقال صلى الله عليه وسلم : لا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم. فإن لجسدك عليك حقا.. وإن لعينيك عليك حقا.. وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك (زوارك) عليك حقا.. ) [9]
يعني: فأعط كل ذي حق حقه، ولا تغل في ناحية على حساب أخرى.
وكذلك ( قال الصحابي الفقيه سلمان الفارسي لأخيه العابد الزاهد أبي الدرداء ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهما، فزادت بينهما الألفة، وسقطت الكلفة، فزار سلمان أبا الدرداء، فوجد أم الدرداء - زوجته - متبذلة (يعني: لابسة ثياب البذلة والمهنة لا ثياب الزينة والتجمل كما تفعل المرأة المتزوجة) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء فرحب بسلمان، وقرب إليه طعاما فقال: كل، فإني صائم! فقال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل. وفي رواية البزار: أقسمت عليك لتفطرن... قال: فأكل... فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم... فقال سلمان: نم.. فنام. ثم ذهب ) [ ص: 32 ] ( ليقوم، فقال سلمان له: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن... فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه... فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان. ) [10] وفي رواية ابن سعد ( أنه صلى الله عليه وسلم قال: لقد أشبع سلمان علما .... )
ولكن ما معنى التطرف الديني؟ وما المقصود به الآن؟ وما معالمه؟ ومتى يعتبر المرء متطرفا دينيا؟!