الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

          الدكتور / يوسف القرضاوي

          غربة الإسلام في ديار الإسلام

          وسبب آخر يعمل عمله في نفسية الإنسان المسلم الملتزم بتعاليم دينه في هـذا العصر، وخصوصا الشاب.

          ذلك أنه يرى المنكر يستعلن، والفساد يستشري، والباطل يتبجح، والعلمانية تتحدث بملء فيها، والماركسية تدعو إلى نفسها بلا خجل، والصليبية تخطط وتعمل بلا وجل، وأجهزة الإعلام تشيع الفاحشة، وتنشر السوء. يرى النساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، ويرى الخمر تشرب جهارا، وأندية الفساد تجعل الليل نهارا. يرى المتاجرة بالغرائز على أشدها، من أدب مكشوف، وأغان خليعة، وصور فاجرة، وأفلام داعرة، [ ص: 108 ] وتمثيليات ومسرحيات ووو.. كلها تصب في نهر الإغراء بالفسوق والعصيان، والتعويق عن الإسلام والإيمان.

          يرى المسلم هـذا في ديار الإسلام، ويرى معها التشريع الذي يجب أن يعبر عن عقائد الأمة وقيمها في صورة قوانين تحرس معنويات الأمة، وتعاقب من يجترئ على حماها.. هـذا التشريع للأسف يبارك المنكر، ويؤيد الفساد؛ لأنه لم ينبع مما أنزل الله، بل مما وضع الناس، فلا عجب أن يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، ويسقط فرائض الله، ويعطل حدود الله.

          ثم يرى الحكام الذين حملهم الله المسئولية عن شعوبهم المسلمة يسيرون في واد غير وادي الإسلام، يوالون من عادى الله، ويعادون من والى الله، ويقربون إليهم من بعد الله، ويبعدون من قرب الله، ويقدمون من أخر الإسلام، ويؤخرون من قدمه، ولا يذكرون الإسلام إلا في الأعياد والمناسبات، تمويها على شعوبهم، وضحكا على لحاهم!

          ومن ناحية أخرى، يرى الظلم الاجتماعي البين، والتفاوت الطبقي الفاحش، أفراد يلعبون بالملايين، وجماهير لا يجدون الملاليم، قصور تشاد وتنفق عليها عشرات الملايين، وربما لا تسكن في السنة إلا أياما معدودات، على حين يموت ملايين في العراء، لا يجدون ما يحميهم من حر الصيف ولا برد الشتاء؛ أناس تموج خزائنهم بالذهب كما يموج التنور باللهب، وأرصدتهم في البنوك الأجنبية بأرقامها السرية، لا يعلم مقدارها إلا الله والكرام الكاتبون، والخواجات الحاسبون؛ وسواد الناس ليس لهم خزائن إلا الجيوب التي كثيرا ما تشكو الإفلاس والخواء.. فهي قانعة بالقليل، ولكنه لا تجده، منشدة قول أبي العتاهية : [ ص: 109 ]


          حسبك مما تبتغيه القوت ما أكثر القوت لمن يموت!

          ومع هـذا لا تجد ما تشتري به القوت يسد جوعة الأطفال يصرخون، أو الكبار يتألمون، ولو تبرع وجيه أو ثري من أثرياء النفط، أو أثرياء الانفتاح، أو وسطاء الشركات العالمية! بما يكسبه في صفقة، أو يخسره في ليلة على المائدة الخضراء، أو ينفقه تحت أقدام شقراء، لأغنى الكثير من الفقراء، وأشبع الكثير من الجياع، وكسا الكثير من العراة.

          وكيف لا، والثروات الضخمة تجمع بل تنهب، والأموال العامة تسرق بل تغصب، والرشوة لها سوق بل أسواق، والمحسوبية قائمة على قدم وساق، واللصوص الكبار يتمتعون بالحرية والتكريم، واللصوص الصغار وحدهم يتعرضون للعقاب الأليم! وداء الحسد والبغضاء بين الأفراد والفئات - نتيجة لهذا التظالم - يفتك بالقلوب والعلاقات، فتك الأوبئة بالأجسام؛ ودعاة المبادئ الهدامة يستغلون هـذا المناخ وتناقضاته الصارخة، ليؤججوا نار الصراع الطبقي، والحقد الاجتماعي، تهيئة لنشر مذاهبهم المستوردة، فيجدوا في هـذا الجو الأذن التي تسمع، لا حبا في المذهب المنشود، ولكن كرها للواقع المشهود.

          وأساس هـذا كله: أن الإسلام - بشموله وتكامله وتوازنه - غائب عن الساحة، غريب في أوطانه، منكور بين أهله، معزول عن الحكم والتشريع، وعن توجيه الحياة العامة، وشئون الدولة في سياستها واقتصادها، وسائر علاقاتها بالداخل والخارج.. وفرض على الإسلام أن يتقوقع في العلاقة بين المرء وربه، ولا يتجاوزها إلى العلاقات الاجتماعية، أو الدستورية، أو الدولية. [ ص: 110 ]

          ومعنى هـذا أنه فرض على الإسلام أن يكون نسخة من النصرانية في عهد انكماشها، أي: يكون عقيدة دون شريعة، وعبادة دون معاملة، ودينا دون دولة، وقرآنا دون سلطان.

          فرض على الإسلام أن يحمل أوزار تاريخ غير تاريخه، لأمة غير أمته، في أرض غير أرضه، نتيجة ظروف لم يعرفها هـو.

          فقد حفل تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في الغرب بمآس ومواقف سلبية، وقفت فيها إلى جوار الجهل ضد العلم، وإلى جوار الاستبداد ضد التحرر، وإلى جوار الملوك والإقطاعيين ضد الشعوب والفئات الضعيفة، وقامت محاكم التفتيش تعذب كل ذي علم أو فكر جديد، وتحرق العلماء أحياء وأمواتا وتفرض الظلم والظلام على المجتمعات باسم الدين، فلا غرو أن ثارت الجماهير عليها، وعملت على التحرر من طغيانها وتسلطها.

          ما ذنب الإسلام حتى يحمل نتائج هـذا التاريخ الأسود، ويحكم عليه بالعزل عن القيادة للأمة، والطرد من موقع التشريع والتوجيه والتأثير، وأن يحبس في خبايا الضمائر فإن خرج منها فليبق بين جدران المساجد والزوايا، على أن يظل في المسجد أيضا، قصير اللسان، خفيض الصوت، حافظا للمثل القائل: من سعادة جدك، وقوفك عند حدك، فهو مسجد " موجه " موضوع تحت مجهر المراقبة، ليس له حرية الدعوة، ولا الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر.

          المشكلة ترجع في جوهرها إلى فرض " العلمانية " على المجتمع الإسلامي، وهي اتجاه دخيل عليه، غريب عنه، مجاف لكل مواريثه وقيمه، فإن محصلة " العلمانية " هـي فصل الدين عن الدولة، وإبعاده عن [ ص: 111 ] الحكم والتشريع، وهذا لم يعرفه الإسلام في تاريخه قط، إذ كانت الشريعة هـي أساس الفتوى والقضاء في الأمة الإسلامية طول عصور تاريخها، وكان الإسلام مصدر العبادات والمعاملات والآداب والتقاليد بين الناس.

          قد يوجد من شذ عن ذلك من الحكام والمحكومين، من اتبع الهوى، وانحرف عن الهدى ودين الحق، ولكن لم يوجد قط من يجحد الإسلام شريعة يرجع إليها المختصمون، ويتحاكم إليها المختلفون.

          حتى الطغاة والجبابرة المتسلطون من أمثال: الحجاج بن يوسف وغيره، إذا ووجهوا بأحكام الشرع، ونصوص القرآن والسنة، لم يملكوا إلا أن يقولوا: صدق الله ورسوله، سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.

          وفرق كبير بين أن تميل عن صراط الشريعة وعدلها، بدافع من شهوة أو غضب، أو حسد أو غفلة، أو نحو ذلك، وبين أن تجمدها ولا تعترف بها، ولا تقر بأن لها السيادة، ومن حقها الحكم، لأنها تمثل كلمة الله، وحكم الله، وكلمة الله هـي العليا، ( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) (المائدة:50) .

          فلا غرو أن تصدم هـذه المشكلة بعنف وجدان الجيل المسلم، وتقلق ضميره، حيث يجد الأمم الأخرى تكيف حياتها وفقا لعقائدها وفلسفاتها وتصوراتها عن الدين والوجود وعن الله والإنسان، ويجد المسلم وحده مكتوبا عليه أن يعيش في صراع بين عقيدته وبين واقعه، بين دينه وبين مجتمعه.

          " إن العلمانية " قد تقبل في مجتمع نصراني، ولكنها لا تجد قبولا عاما في مجتمع إسلامي أبدا. [ ص: 112 ]

          " إن النصرانية " لا تشتمل على شريعة أو نظام للحياة يوجب على المؤمن بها التزاما خاصا بهذا النظام أو تلك الشريعة.

          إن الإنجيل نفسه قبل تقسيم الحياة إلى شطرين: أحدهما لله أو للدين، والآخر لقيصر أو للدولة، فقال: " أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله " .

          وبهذا يستطيع النصراني أن يعيش في ظل حكم علماني، وهو مطمئن الضمير غير مخدوش العقيدة.

          كما أن الغربيين - من النصارى خاصة - لهم عذرهم في الهرب من " الحكم الديني " إلى الحكم العلماني، فالحكم الديني - كما عرفوه - يعني حكم الكهنوت، وسلطة الكنيسة، وما يتبعها من قرارات الحرمان، وصكوك الغفران!

          فإذا نظرنا إلى المجتمع المسلم وجدنا قبول " العلمانية " لديه يعني شيئا آخر: فإن الإسلام عقيدة وشريعة، ونظام كامل للحياة، وبهذا يعني قبوله " العلمانية " اطراح شريعة الله، ورفض أحكام الله، واتهام هـذه الشريعة بأنها لا تصلح لهذا الزمن... واتخاذ البشر شرائع لأنفسهم من وضع عقولهم، معناه: تفضيل علمهم المحدود وتجاربهم القاصرة على هـداية الله ( قل أأنتم أعلم أم الله ) .

          لهذا كانت الدعوة إلى العلمانية بين المسلمين معناها: الإلحاد والمروق من الإسلام.. وكان قبول العلمانية أساسا للحكم بدلا من الشريعة الإسلامية ردة صريحة عن دين الأمة الذي رضيه الله لها، ورضيته لنفسها، والذي فرض عليها أن تحكم بما أنزل الله. [ ص: 113 ]

          وكان السكوت من الشعب على هـذا المنكر الكبير مخالفة بينة، ومعصية ظاهرة، أبرز نتائجها الشعور بالإثم، والإنكار القلبي على الوضع القائم، وفقد الإحساس بالرضى عنه والاطمئنان إليه والاحترام له لأنه وضع يفتقد الشرعية في نظر المسلم.

          ثم إن العلمانية تنسجم مع التفكير الغربي الذي ينظر إلى الله أنه خلق العالم ثم تركه، فعلاقته به كعلاقة صانع الساعة بالساعة، صنعها أول مرة ثم تركها تدور بغير حاجة إليه.. وهذا الفكر موروث من فلسفة اليونان، وخاصة فلسفة أرسطو الذي لا يدبر الإله عنده شيئا من أمر العالم، بل لا يعلم عنه شيئا، فهو إله مسكين كما وصفه " ول ديورانت " ! فلا عجب أن يدع مثل هـذا الإله الناس وشأنهم؛ إذ كيف يشرع لهم وهو يجهل أمورهم؟ بخلاف نظرتنا - نحن المسلمين - إلى الله، فهو خالق الخلق، ومالك الملك، ومدبر الأمر، الذي أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا ووسعت رحمته كل شيء، ورزقه كل حي، لهذا أنزل الشرائع، وأحل الحلال، وحرم الحرام، وفرض على عباده أن يلتزموا بما شرع، ويحكموا بما أنزل، وإلا كفروا وظلموا وفسقوا " [1]

          يرى المسلم الملتزم المستمسك هـذا كله بعينيه، ويلمسه بيديه، ولا يدري ماذا يصنع لمقاومته، وليس له من الأمر شيء، إنه لا يستطيع أن يغير المنكر بيده، ولا يستطيع أن يغيره بلسانه، فلم يبق له إلا أن يغيره بقلبه، وذلك أضعف الإيمان، والتغيير بالقلب أن يغلي من داخله كما يغلي القدر فوق النار، وأن يتحرق فؤاده على ما يرى حسرة وغما، وأن يذوب قلبه كما يذوب الملح في الماء، لما يرى من المنكر ولا يستطيع تغييره. [ ص: 114 ]

          وهذا الغليان النفسي لا يظل مكبوتا أبد الدهر، بل لا بد أن يتنفس، معبرا عن نفسه، بصورة أو بأخرى، فإن القدر إذ زادت عليها النار، فلا بد أن تتفجر أو تتكسر.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية