الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          مـراتب المأمـورات

          ومن هـنا كانت الأمور المطلوبة في الإسلام مراتب ودرجات: منها المستحب الذي رغب الشارع في فعله ولا حرج في تركه.

          ومنها المسنون سنية مؤكدة، وهو ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعله ولم يتركه إلا نادرا، ولم يطلبه طلبا جازما، وقد كان من الصحابة من يترك مثل هـذا أحيانا حتى لا يعده الناس واجبا فيحرجوا أنفسهم، كما ورد أن أبا بكر وعمر كانا يتركان الأضحية لذلك.

          ومنها: الواجب - كما في بعض المذاهب - وهو ما أمر به الشارع وإن لم يصل الأمر إلى درجة القطع.

          ومنها: الفرض ، وهو ما ثبت وجوبه بطريق قطعي لا شبهة فيه، ورتب الشارع على فعله الثواب، وعلى تركه العقاب، ويلزم من تركه الفسق، ومن جحده الكفر.

          ومن المعلوم أن الفرض نوعان: فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين.. وفرض عين على كل من يلزمه.

          وفرض العين كذلك درجات، فهناك فرائض اعتبرها الإسلام أركانا أساسية، وهي خمس : ( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا ) . [ ص: 175 ]

          وهناك فرائض أخرى دون هـذه في الأهمية والمنزلة، وإن كانت مطلوبة في دين الله طلبا جازما.

          والإسلام ولا شك يقدم فرض العين على فرض الكفاية، ولهذا يقدم بر الوالدين وطاعتهما على الجهاد ما دام فرض كفاية، ولا يسمح للابن بالجهاد حينئذ بغير إذن الوالدين، كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .

          ويقدم فرض العين المتعلق بحق المجموع على الفرض المتعلق بحق فرد أو أفراد، كالجهاد وبر الوالدين، فالجهاد إذا أصبح فرض عين على قوم - كما في حالة هـجوم عدو كافر على أهل بلد - مقدم على حق الوالدين في البر والطاعة.

          ويقدم الفرض على الواجب، والواجب على السنة، والسنة المؤكدة على المستحب.

          والإسلام كذلك يقدم القربات الاجتماعية على القربات الفردية، ويفضل ما يتعدى نفعه إلى الغير على ما يقتصر نفعه على فاعله.

          ولهذا يفضل الجهاد على العبادة الفردية، ويفضل الفقه والعلم على العبادة، والفقيه على العابد، وإصلاح ذات البين على التطوع بالصلاة والصيام والصدقة.

          ويفضل عمل الإمام العادل في رعيته على تطوعه بنوافل العبادات بأضعاف مضاعفة: ( ليوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة. )

          كما أن الإسلام يؤثر أعمال القلوب على أعمال الجوارح، ويقدم العقيدة على العمل، ويعتبرها هـي المحور والأساس. [ ص: 176 ]

          ومما وقع فيه المسلمون في عصور الانحطاط أنهم:

          (1) أهملوا - إلى حد كبير - فروض الكفاية المتعلقة بمجموع الأمة كالتفوق العلمي والصناعي والحربي.. ومثل الاجتهاد في الفقه واستنباط الأحكام، ومثل نشر الدعوة إلى الإسلام ومثل مقاومة السلطان الجائر.

          (2) وأهملوا بعض الفرائض العينية، أو أعطوها دون قيمتها، مثل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

          (3) واهتموا ببعض الأركان أكثر من بعض، فاهتموا بالصوم أكثر من الصلاة، فلهذا لم يكد يوجد مسلم مفطر في نهار رمضان ولا مسلمة، ولكن وجد من المسلمين - والمسلمات خاصة - من يتكاسل عن الصلاة، ووجد من ينقضي عمره دون أن ينحني لله راكعا ساجدا، كما أن أكثر الناس اهتموا بالصلاة أكثر مما اهتموا بالزكاة، مع أن الله تعالى قرن بينهما في كتابه الكريم في (28) موضعا، حتى " قال بعض الصحابة: من لم يزك فلا صلاة له! "

          " وقال الصديق أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. "

          (4) واهتموا ببعض النوافل أكثر من اهتمامهم بالفرائض والواجبات، كما هـو ملاحظ عند كثير من متأخري المتصوفة الذين أكثروا من الأذكار والتسابيح والأوراد، ولم يولوا هـذا الاهتمام لكثير من الفرائض الاجتماعية، مثل: إنكار المنكر، ومقاومة الظلم الاجتماعي والسياسي. [ ص: 177 ]

          (5) واهتموا بالعبادات الفردية، كالصلاة والذكر، أكثر من اهتمامهم بالعبادات الاجتماعية التي يتعدى نفعها، كالجهاد، والفقه، والإصلاح بين الناس، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالبر والرحمة.

          (6) وأخيرا اهتم كثير من الناس بفروع الأعمال، وأغفلوا أساس البناء كله، وهو العقيدة والإيمان والتوحيد، وإخلاص الدين لله.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية