الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          ملاحظتان مهمتان

          وأود أن أنبه هـنا إلى ملاحظتين جديرتين بالاهتمام في موضوعنا:

          الملاحظة الأولى [ ص: 34 ]

          أن مقدار تدين المرء، وتدين المحيط الذي يعيش فيه، من حيث القوة والضعف، له أثره في الحكم على الآخرين، بالتطرف أو التوسط أو التسيب.

          فمن المشاهد أن من كانت جرعته من التدين قوية، وكان الوسط الذي نشأ فيه شديد الالتزام بالدين، يكون مرهف الحس لأي مخالفة أو تقصير يراه، حتى إنه ليعجب أن يوجد مسلم لا حظ له من قيام الليل، أو صيام النهار، وفي هـذا ورد القول المأثور:

          " حسنات الأبرار، سيئات المقربين " .

          ويحضرني هـنا " ما قاله أنس بن مالك لمعاصريه من التابعين: إنكم لتعملون أعمالا هـي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات! " وكانت عائشة رضي الله عنها تنشد بيت لبيد بن ربيعة :

          ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب!

          وتقول: رحم الله لبيدا، كيف لو عاش إلى زماننا هـذا؟ وكان ابن أختها عروة بن الزبير ، وقد عاش بعدها زمنا، ينشد البيت، ويقول: رحم الله لبيدا وعائشة، كيف لو عاشا إلى زماننا هـذا؟!

          وفي مقابل هـذا نجد الشخص الذي قل زاده من التدين علما وعملا، أو عاش في محيط تجرأ على محارم الله وتنكر لشرائعه، يعتبر التمسك بالحد الأدنى من الدين ضربا من التعصب أو التشدد.

          وكلما زادت مسافة البعد بينه وبين الدين، زاد استغرابه بل إنكاره، بل [ ص: 35 ] اتهامه لكل من يستمسك بعروة الدين، ويلجم نفسه بلجام التقوى، ويسأل في كل شيء يعرض له أو يعرض عليه: حلال هـو أم حرام؟

          وكثير من أولئك الذين يعيشون في أوطاننا بأسماء إسلامية، وعقول غربية، يعتبرون مجرد الالتزام بأوامر الله ونواهيه تطرفا دينيا!

          وكثير ممن غزته الأفكار والتقاليد الأجنبية يعتبر الذين يتمسكون بآداب الإسلام في المأكل والمشرب والملبس والزينة ونحوها، غاية في التطرف والتعصب!

          لقد رأينا من يعد إطلاق اللحية من الفتى، أو التزام الحجاب من الفتاة، تطرفا في الدين!

          ورأينا من يعتبر الدعوة إلى تحكيم شريعة الله، وإقامة دولة الإسلام في أرض الإسلام، تطرفا في الدين!

          ورأينا من يرى الغيرة على الدين وحرماته، والأمر بالمعروف إذا ضيع, والنهي عن المنكر إذا وقع، تطرفا في الدين، وتدخلا في الحرية الشخصية للآخرين!

          ورأينا من يرى أن اعتبار الآخرين من غير المؤمنين بدينه كفارا، تعصب وتطرف، مع أن أساس الإيمان الديني أن يعتقد المؤمن أنه على حق، وأن مخالفه على باطل، ولا مجاملة في هـذه الحقيقة. والملاحظة الثانية

          أنه ليس من الإنصاف أن نتهم إنسانا بالتطرف في دينه لمجرد أنه اختار رأيا من الآراء الفقهية المتشددة، ما دام يعتقد أنه الأصوب والأرجح، [ ص: 36 ] ويرى أنه ملزم به شرعا، ومحاسب عليه دينا، وإن كان غيره يرى رأيه مرجوحا أو ضعيفا، لأنه ليس مسئولا إلا عما يراه ويعتقده هـو، وإن شدد بذلك على نفسه، بل حسبه أن يرى أن ذلك هـو الأفضل والأورع، وإن لم يكن فرضا ولا واجبا، إذ كانت هـمته لا تقف عند حد الفرائض، وإنما يتقرب إلى الله تعالى بالنوافل حتى يحبه.

          ومن حقائق الحياة، أن الناس يتفاوتون في هـذه القضية، فمنهم المتساهل الميسر، ومنهم المتشدد المعسر، وقد كان في الصحابة المترخص كابن عباس ، والمتشدد كابن عمر رضي الله عنه .

          ويكفي المسلم في هـذا المقام أن يستند رأيه الذي تبناه إلى مذهب من المذاهب المعتبرة عند المسلمين، أو يعتمد على اجتهاد صحيح قائم على استدلال شرعي سليم؛ فإذا كان هـناك من أئمة المذاهب المتبوعة من يقول بوجوب إعفاء اللحية وتركها وحرمة حلقها، فهل يوصف بالتطرف من اقتنع بهذا المذهب وأخذ به، وطبقه على نفسه لأنه خالف رأيي ورأيك ورأي زيد وعمر من العلماء، ولا سيما المعاصرين؟ وهل من حقنا أن نصادر حق امرئ في ترجيح رأي على آخر، وخاصة أنه يتصل بحياته وسلوكه هـو، لا بحياة غيره.

          إن جما غفيرا من علماء السلف والخلف، رأوا أن على المرأة المسلمة أن تستر جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها، فقد اعتبروهما مما استثني في قوله تعالى: ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) (النور: 31) ، وأكدوا ذلك بأحاديث ووقائع وآثار.. ورجح ذلك كثيرون من علماء عصرنا، وأنا منهم. [ ص: 37 ]

          ولكن عددا آخر من العلماء المرموقين، ذهبوا إلى أن الوجه والكفين عورة يجب سترها، واستدلوا على ذلك بنصوص من القرآن والحديث والآثار، وأخذ بقولهم كثيرون من علماء هـذا العصر، وخصوصا في باكستان والهند والسعودية وأقطار الخليج، وأرسلوا نداءاتهم إلى كل فتاة تؤمن بالله وباليوم الآخر، أن تلبس النقاب، ليستر وجهها، والقفاز ليستر يديها.

          فهل تدمغ بالتطرف فتاة أو سيدة آمنت بهذا المذهب، واعتبرته جزءا من دينها؟ أو يدمغ به رجل دعا إلى ذلك ابنته أو زوجته فاستجابت؟ وهل يحق لنا أن نجبر هـذا أو ذاك أو تلك على التنازل عما يعتقده شرع الله، ونلزمه أن يبيع الجنة ويشتري النار إرضاء لخاطرنا، وفرارا من تهمة التطرف؟

          ومثل ذلك يقال فيمن يتبنى الآراء المتشددة في الغناء والموسيقي والرسم والتصوير وغيرها، مما يخالف اجتهادي شخصيا في هـذه الأمور، واجتهاد عدد من علماء العصر البارزين، ولكنه يتفق مع العديد من علماء المسلمين، متقدمين ومتأخرين ومعاصرين.

          والواقع أن كثيرا مما ينكر على من نسميهم " المتطرفين " مما قد يعتبر من التشدد والتنطع، له أصل شرعي في فقهنا وتراثنا، تبناه بعض العلماء المعاصرين، ودافعوا عنه ودعوا إليه، فاستجاب لهم من الشباب المخلص من استجاب، رجاء في رحمة الله تعالى وخوفا من عذابه، وذلك كلبس الثوب (الجلباب) بدل القميص والبنطلون، وتقصيره إلى ما فوق الكعبين، والامتناع عن مصافحة النساء، وغيرها.

          ومن هـنا لا نستطيع أن ننكر على مسلم، أو نتهمه بالتطرف، لمجرد أنه [ ص: 38 ] شدد على نفسه، وأخذ من الآراء الفقهية بما يراه أرضى لربه، وأسلم لدينه، وأحوط لآخرته.

          وليس من حقنا أن نجبره على التنازل عن رأيه ونطالبه بسلوك يخالف معتقده. كل ما نملكه أن ندعوه بالحكمة، ونحاوره بالحسنى، ونقنعه بالدليل، عسى أن يدخل فيما نراه أهدى سبيلا، وأقوم قيلا.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية