الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الإسراف في التحريم

          ومن دلائل هـذه الضحالة، وعدم الرسوخ في فقه الدين، والإحاطة بآفاق الشريعة: الميل دائما إلى التضييق والتشديد والإسراف في القول بالتحريم، وتوسيع دائرة المحرمات، مع تحذير القرآن والسنة والسلف من ذلك.

          وحسبنا قوله تعالى: ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هـذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ) (النحل:116) .

          وكان السلف لا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزما، فإذا لم يجزم بتحريمه قالوا: نكره كذا، أو لا نراه، أو نحو ذلك من العبارات، ولا يصرحون بالتحريم، أما الميالون إلى الغلو، فهم يسارعون إلى التحريم دون [ ص: 73 ] تحفظ، بدافع التورع والاحتياط، إن أحسنا الظن، أو بدوافع أخرى، يعلم الله حقيقتها.

          فإذا كان في الفقه رأيان: أحدهما يقول بالإباحة والآخر بالكراهة، أخذوا بالكراهة، وإن كان أحدهما بالكراهة، والآخر بالتحريم، جنحوا إلى التحريم.

          وإذا كان هـناك رأيان: أحدهما ميسر، والآخر مشدد، فهم دائما مع التشديد، مع التضييق، هـم دائما مع شدائد ابن عمر ، ولم يقفوا يوما مع رخص ابن عباس ، وكثيرا ما يكون ذلك لجهلهم بالوجهة الأخرى، التي تحمل الترخيص والتيسير.

          رأى أحدهم رجلا يشرب قائما، فزجره بعنف وقال له:

          اقعد، فقد خالفت السنة، واقترفت أمرا منهيا عنه، ولم يفهم الرجل هـذه الضجة، فلم يجلس، فقال له صاحبنا: عليك - إن كنت مسلما - أن تتقيأ ما شربته!

          قلت له برفق: الأمر لا يستحق كل هـذا الزجر والتغليظ، فالمسألة - أعني جواز الشرب قائما - خلافية، والمسائل الخلافية لا يجوز فيها الإنكار، وإن جاز فيها الإنكار، لا يجوز فيها التشديد والتغليظ.

          قال: ولكن الحديث صريح في النهي عن الشرب قائما، ( ومن نسي فليستقئ ) . وهو في الصحيح.

          قلت: ولكن أحاديث جواز الشرب قائما أصح وأثبت، ولهذا أخرجها البخاري تحت عنوان " باب الشرب قائما " ولم يخرج من أحاديث النهي شيئا؛ وروى الترمذي وغيره جواز الشرب قائما من حديث عدد من الصحابة. [ ص: 74 ]

          كما أن الشرب قائما ثبت عنه في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم ، فقد فعله في حجة الوداع، كما رواه ابن عباس وهو في الصحيحين؛ وروى الشيخان ( عن علي : أنه توضأ، ثم قام فشرب فضل وضوئه وهو قائم، ثم قال: إن أناسا يكرهون الشرب قائما. وإن النبي صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت. ) يعني: شرب فضل وضوئه قائما كما شربت.

          وصحح الترمذي من حديث ابن عمر قال: ( كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام ) . "

          وصحح أيضا ( عن كبشة قالت: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فشرب من قربة معلقة ) .

          وثبت الشرب قائما عن عمر ، وفي الموطأ: أن عمر وعثمان وعليا كانوا يشربون قياما، وكان سعد وعائشة لا يرون بذلك بأسا, وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين.

          ذكر ذلك كله الحافظ في " الفتح " ثم ذكر مسالك العلماء في هـذه المسألة مع تعارض الظواهر فيها، فمنهم من رجح أحاديث الجواز لأنها أثبت من أحاديث النهي، وبخاصة أن من روي عنهم النهي روي عنهم الجواز.

          ومنهم من قال: إن أحاديث الجواز ناسخة لأحاديث النهي، لتأخرها وتأكدها بفعل الخلفاء الراشدين.

          ومهم من أول النهي بأنه محمول على كراهة التنزيه، وأن الهدف منه الإرشاد إلى ما هـو الأوفق والأليق.

          وإن أمرا فيه كل وجهات النظر هـذه لا يجوز أن ينكر على من فعله، بله أن يغلظ عليه. [ ص: 75 ]

          ومثل ذلك قضية تقصير الثوب الذي التزمه كثير من الشباب المتدين، رغم ما جر عليهم من متاعب أسرية واجتماعية، بدعوى أن لبس الثوب إذا زاد عن الكعبين، فهو حرام، وحجتهم الحديث الصحيح؛ ( ما أسفل من الكعبين فهو في النار )

          والأحاديث التي جاءت بالوعيد الشديد لمن يسبل إزاره، ومن يجر ثوبه.

          ولكن هـذه الأحاديث المطلقة قد قيدتها أحاديث أخر، حصرت هـذا الوعيد فيمن فعل ذلك على سبيل الفخر والخيلاء، والله لا يحب كل مختال فخور.

          نقرأ في حديث ابن عمر في الصحيح: ( من جر ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) وحديثه الآخر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هـاتين يقول ( من جر إزاره، لا يريد بذلك إلا المخيلة، فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة ) [1] وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه ، حيث قال: إن إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهده: إنك لست ممن يفعله خيلاء... ولهذا ذهب النووي وغيره إلى كراهية الإسبال ونحوه، والكراهة تزول لأدنى حاجة.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية