الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

          الدكتور / يوسف القرضاوي

          لماذا أعرض الشباب عن العلماء

          وهنا نجد من الإنصاف أن نقول: إن بعض الشباب إنما اعتمدوا على الكتب، لفقدانهم الثقة بأكثر المحترفين من رجال العلم، وخاصة المقربين من السلطان منهم، فهم عندهم في موضع الاتهام، لأنهم يمالئون الحاكم رغم علمهم بأنه لا يحكم بما أنزل الله، وهم لم يكتفوا بأن يسكتوا عن أن يقولوا للظالم: يا ظالم، بل قالوا له: ما أعد لك وما أعظمك [ ص: 90 ] أيها البطل! فليتهم إذ سكتوا عن الحق لم ينطقوا بالباطل! فلا غرو أن وجدوا الأموات أوثق وآمن من الأحياء، فلجئوا إلى كتبهم يأخذون عنها دون وسيط.

          قلت لأحد هـؤلاء: يجب أن تأخذوا العلم من أهله، وتسألوا أهل الذكر من العلماء فيما لا تعلمون.

          قال: وأين نجد هـؤلاء العلماء الذين نطمئن إلى دينهم وعلمهم؟ إننا لا نجد إلا هـؤلاء الذين يدورون في فلك الحكام، إن أرادوا الحل حللوا، وإن أرادوا الحرمة حرموا؛ إذا كان الحاكم اشتراكيا باركوا الاشتراكية ووصلوا نسبها بالإسلام، وإذا كان رأسماليا أيدوا الرأسمالية باسم الإسلام!

          العلماء الذين إذا أراد حاكمهم الحرب فالسلم حرام ومنكر، وإذا تغيرت سياسته فأراد السلم، صدرت الفتاوى بالتبرير والتأييد ( يحلونه عاما ويحرمونه عاما )

          العلماء الذين سووا بين الكنيسة والمسجد، وبين الهند الوثنية وباكستان الإسلامية!

          قلت له: لا ينبغي أن نحمل الكل ذنب البعض، وأن نأخذ المحسنين بتقصير المسيئين، فمن العلماء من رفض الباطل، ومن تصدى للظلم، ومن أبى الانحناء للطاغوت، ومن قاوم إغراء الوعد وإرهاب الوعيد، واحتمل العذاب, وصبر على البلاء، ورضي بالسجن والتنكيل، بل رحب بالشهادة في سبيل الله، ولم يقبل المساومة على دينه، أو التهاون في شأن عقيدته. [ ص: 91 ]

          قال الشاب: لا أجحد هـذا، ولكن المسيئين هـم الكبار المرموقون، والقادة المسئولون الذين بأيديهم مقاليد الفتوى والتوجيه والإرشاد.

          ولا ريب أن مع الشباب كثيرا من الحق فيما قالوا: فقد أصبح كثير من " العلماء الكبار " أدوات في يد السلطان، إن شاء أن ينطقوا بما يريد من شأن نطقوا وأفصحوا، وإن شاء أن يصمتوا صمتوا حيث يجب البيان، ويحرم الكتمان، والساكت عن الحق كالناطق بالباطل، كلاهما شيطان.

          دعي أحد العلماء اللامعين إلى ندوة تليفزيونية في أحد الأقطار، تدور المناقشة فيها حول موضوع " تحديد النسل " في نظر الشريعة الإسلامية، وكانت دهشة الرجل المكلف بإدارة الندوة بالغة حين قال له هـذا العالم: هـل تهدف الندوة إلى تأييد التحديد أو معارضته حتى أهيئ نفسي؟!

          ورحم الله العلماء السابقين الذين قال أحدهم للباشا: إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه!

          وليت هـؤلاء حين قل زادهم من اليقين والتقوى كثر زادهم من العلم والفقه!

          كلا لقد احتك هـؤلاء الشباب الحريصون على التفقه في دينهم بكثير من العلماء اللامعين في سماء الخطابة أو الكتابة، فلم يجدوا لهم قدما راسخة في علم الكتاب والسنة، ووجدوا ما عندهم من العلم لا يشفي علة، ولا ينقع غلة. كتب بعضهم في صحيفة سيارة ينادي بأن لا ربا بين الحكومة ورعاياها، وحجته التي خيل إليه أنه بها أتى بما لم تأت به الأوائل: القياس - فيما زعم - على أن لا ربا بين الوالد وولده، وهذا الحكم مختلف فيه، ولم يثبت بنص ولا إجماع، فكيف يعتبر أصلا يقاس عليه؟ ولو صح أن [ ص: 92 ] يقاس عليه كان هـذا قياسا مع الفارق.

          لقد كان الشباب معذورا حين يئس من أمثال هـؤلاء، الذين حرموا من العلم والورع معا.

          لقد وجدوا أن من هـؤلاء من يحتج بالأحاديث الموضوعة ، ويرد الأحاديث الصحيحة المتفق عليها، رأوا منهم من يستشهد بالإسرائيليات ، ويستدل بالمنامات، وليس في رأسه إلا القصص والحكايات! رأوا منهم من يؤيد البدع الرائجة، ويرفض السنن الثابتة، ويتملق أهواء العوام وشهوات الخواص ولا يلجأ في العلم إلى ركن وثيق، فلهذا نفضوا أيديهم منهم، ولم يعد لهم ثقة بما يصدر عنهم.

          حتى بعض العلماء الذين كان لهم سمعة طيبة عند الشباب، وقعوا في شرك التأييد للسلطان الذي نصبته لهم الأجهزة الإعلامية الماهرة، وحملوا على الشباب بشدة دون أن يسمعوا دفاعهم، أو يعرفوا حقيقة مواقفهم.

          ويكفي هـنا أن أضرب مثلا لما قاله أحد العلماء المشهورين معلقا على ما حدث لشباب الجماعات الإسلامية في مصر ، بعد تجميد نشاطهم، واعتقال أعداد كبيرة منهم، وتقديمهم للمحاكمات.

          قال: لو كان هـؤلاء حقيقة أنصار إسلام ما خذلهم الله.. لو كانوا فعلا أنصار إسلام، والله راض عما كانوا يفكرون فيه ويهدفون إليه، ما كانت قوة - لا بوليس ولا جيش - وقفت أمامهم، ولكن لأنهم ليسوا كذلك هـزمهم الله قبل أن يهزمهم البشر.

          قال الشيخ هـذا الكلام ليقرر به قاعدة تتخذ مقياسا لمعرفة المحق من المبطل، فمن خذل وانهزم دل على أنه كان على باطل؛ لأن الله لم ينصره. ومن كان النصر والنجاح حليفه دل ذلك أنه على حق. [ ص: 93 ]

          وهذا كلام مرفوض شرعا وقدرا، فإن للنصر أسبابا وشروطا قد لا تتوافر كلها لصاحب الحق، فيتخلف النصر عنه.. وقد تتهيأ للمبطل ظروف تمكنه من النجاح إلى حين.. قد يقصر أو يطول.

          وكم رأينا في عصرنا من دعاة للباطل تغلبوا ونجحوا، ومن دعاة للحق أخفقوا وهزموا، لأن القوى العالمية كانت مع الأولين، وضد الآخرين، وأمامنا إسرائيل مثالا واضحا لما نقول.

          ومن منا يجهل كيف سحق الشعب التركي المسلم - بقيادة علمائه - أمام طغيان أتاتورك وزمرته؟ وكيف طرد الإسلام من دار الخلافة، وفرضت العلمانية اللادينية على شعب تركية بالحديد والنار؟ فمن كان من الفريقين على الحق ومن كان على الباطل؟

          وبالأمس القريب، في بعض البلاد الإسلامية قتل العلماء، وحرقوا بالنار؛ لأنهم قاوموا قانونا يتعلق بأحوال الأسرة، حاولت السلطة أن تفرضه على الشعب المسلم، فيه تبديل لشرع الله، فهو يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، ويبطل ما أوجب الله، فلما قال العلماء: لا، كان جزاؤهم الموت، حتى يكونوا عبرة لغيرهم، فلا يرتفع لأحد بعدهم رأس، ولا يسمع لمعارض صوت.

          وانتصرت السلطة الطاغية، وسكت صوت العلماء، ومعهم صوت الشعب. فهل كانت السلطة على حق، والعلماء على باطل؟ [ ص: 94 ]

          وفي بلد إسلامي آخر، تتحكم الأقلية الكافرة في الأكثرية المسلمة وتسوق الألوف من المسلمين والمسلمات إلى السجون، حتى يخرس كل صارخ، ويستكين كل معاند، ولا يقول لأحد: " كيف؟ " و " لم؟ " فضلا عن " لا " . فإذا ضاقت السجون بمن فيها خففوا أعدادها بتوجيه الرشاشات إلى صدور من فيها، وإذا وجدوا الرجال المسلمين لا يبالون بالموت، اتخذوا معهم أسلوبا آخر لقهرهم واذلالهم، أسلوبا لم يقدم عليه جنكيز خان ولا هـولاكو، ولا غيرهما من جبابرة التاريخ السفاحين: أن يعتدوا على أعراضهم أمام أعينهم.

          فيالله، كم من دماء معصومة سفكت، وكم من أعراض مصونة هـتكت، وكم من حرمات مقدسة قد انتهكت، وكم من مساجد عريقة هـدمت، وكم من أموال نفيسة نهبت، وبيوت عامرة خربت، ومدن دمرت على أهلها، قتل تحت أنقاضها من قتل، وشرد من شرد، من الرجال والنساء والولدان، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وكم من أطفال برآء في عمر الزهر، ودون سن التمييز، لا يعرفون ولا يعرف أحد من الناس، من أي أسرة هـم، ولا من آباؤهم وأمهاتهم؟

          لمثل هـذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان!

          لقد قهر الشعب المسلم أمام جبروت الطاغوت! فمن منهما على الحق، ومن على الباطل؟

          وفي سائر عصور التاريخ حدث هـذا، انهزم أبو الشهداء، سبط النبي، الحسين بن علي رضي الله عنه أمام جيش ابن زياد والى يزيد ، وبقيت دولة بني أمية لعشرات السنين ولم يكن لآل البيت حظ في الخلافة حتى بعد قيام دولة بني العباس أبناء عمومتهم. [ ص: 95 ]

          فهل نتخذ من هـذا دليلا على أن يزيد كان على حق والحسين على باطل؟!

          وبعد ذلك بسنوات انهزم العالم القائد الشجاع عبد الله بن الزبير - أحد العبادلة الأربعة - أمام جيش الحجاج جبار بني أمية، بعد أن ظل في الحجاز وما حولها بضع سنين ينادى بخليفة المسلمين وأمير المؤمنين.

          وبعده سحق القائد الثائر عبد الرحمن بن الأشعت ومعه مجموعة من كبار العلماء مثل سعيد بن جبير ، والشعبي ، ومطرف بن عبد الله وغيرهم، سحقهم الحجاج الطاغية وقتل منهم من قتل، مثل: سعيد بن جبير الذي قال عنه الإمام أحمد : قتل سعيد وما على الأرض مسلم إلا وهو محتاج إلى علمه.

          فهل هـزيمة هـؤلاء وأولئك أمام طغيان الحجاج برهان على أنهم على باطل، والحجاج على حق؟

          إننا نذكر هـنا ما قاله بعض المسلمين وقد انكشفوا أمام خصومهم في معركة: والله لو نهشتنا السباع، أو تخطفنا الطير، ما شككنا أنكم على الباطل، وأننا على الحق!

          " وقال عبد الله بن الزبير وهو محصور مع قلة من أنصاره في مكة : والله ما ذل ذو حق، ولو تمالأ عليه من بأقطارها: ووالله ما عز ذو باطل ولو طلع من جبينه القمر! "

          وقد أشار القرآن الكريم إلى أن عددا من الأنبياء قتلهم خصومهم، كما قال تعالى في خطاب بني إسرائيل: ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى [ ص: 96 ] أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) (البقرة:87) ومن هـؤلاء نبي الله زكريا ، وابنه السيد الحصور يحيى عليهما السلام.

          فهل كان قتل هـؤلاء النبيين، وتمكن أعدائهم منهم، دليلا على أنهم لم يكونوا على حق فيما دعوا إليه؟

          وفي القرآن أيضا نقرأ قصة أصحاب الأخدود ، الذين حفروا الأخاديد وأججوا فيها النيران، وألقوا بجماعة المؤمنين في قلبها، وهو قعود حولها، يتلذذون بالنظر إلى ألسنة النار، وهي تأكل هـؤلاء المؤمنين الصادقين ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) (البروج:8) .

          فهل كان هـؤلاء الطغاة على حق، لأنهم تمكنوا من أولئك الضعفاء من المؤمنين وأبادوا خضراءهم ولم يبقوا لهم من باقية؟

          وهل كان أولئك المؤمنين على باطل؛ لأن نهايتهم كانت الإبادة والفناء في هـذه الدنيا؟!

          الواقع أن منطلق الشيخ غير مقبول بحال، ولا أدري كيف غفل الشيخ عن سنن الله تعالى في ابتلاء المؤمنين، واستدراج الطاغين، فقد قال تعالى في الأولين:

          ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) (العنكبوت:2-3) وقال بعد غزوة أحد التي انكسر فيها المسلمون: ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس [ ص: 97 ] وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء ... ) (آل عمران:140-141) وقال في الآخرين: ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين ) (القلم: 44-45 ) .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية