الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

          الدكتور / يوسف القرضاوي

          عاملوهم بروح الأبوة والأخوة ...

          وإن الخطوة الثانية في طريق العلاج ألا نحدث هـؤلاء الشباب من فوق [ ص: 134 ] أبراج عاجية، مستعلين عليهم أو متبرئين منهم، مما يحفر بيننا وبينهم فجوة واسعة، أو هـوة عميقة، فلا يثقون بنا ولا يستمعون لنا، كما أننا لا نستطيع بذلك أن نفهمهم، ونعرف أغوار حياتهم، وحقيقة مشكلاتهم.

          ينبغي أن لا يكون موقفنا منهم موقف " ممثلي الاتهام " كل هـمنا أن نبرز مساوئهم، ونضخم سلبياتهم، ونشكك في نواياهم، ونطعن في أعمالهم، ونلتمس لهم بذلك أقصى العقوبات!!

          إنما يجب قبل كل شيء أن نعاملهم بروح الأبوة الحانية، والأخوة الراضية، ونشعرهم أنهم منا، وأننا منهم، وأنهم فلذات أكبادنا، وأمل حياتنا، ومستقبل أمتنا، وبذلك ندخل إليهم من باب الحب لهم، والإشفاق عليهم، لا من باب الاتهام لهم، والتكبر عليهم.

          يجب أن نقف موقف المحامي عنهم، حيث تصوب إليهم سهام الاتهام من أمام ومن خلف، وعن يمين وشمال، بحق أو بباطل، ومع حسن النية أو سوئها.

          فإذا لم نحسن أن نقف موقف الدفاع، لسبب أو لآخر، فلنقف موقف القضاء العادل، الذي لا يدين إلا ببينة، ولا يتحيز لمدع أو مدعى عليه.

          إن من عيوبنا: أننا في القضايا الاجتماعية نتعجل الأحكام، ونعممها، ونصدرها نهائية باتة، لا تقبل النقض ولا الاستئناف، وقد نفعل ذلك دون أن نسمع دفاع المتهمين وحجة الخصوم، وهذا ليس من العدل في شيء.

          إن الكثيرين يحكمون على هـؤلاء الشباب من بعيد، دون أن يخالطوهم [ ص: 135 ] ويتعرفوا عليهم، ويعرفوا كيف يفكرون، وكيف يشعرون، وكيف يسلكون، وكيف يتعاملون.

          وكثيرون يحكمون على جميعهم بتصرف عدد محدود منهم، مع أن الأقلية لا تحكم على الأكثرية، ولهذا قرر فقهاؤنا: إن للأكثر حكم الكل، وإن النادر لا حكم له.

          وآخرون يحكمون على الشخص بتصرف واحد يصدر منه، قد يكون له دوافعه وملابساته الخاصة، وقد يكون له تفسير عند صاحبه لو سمعه من أنكره لرجع عن إنكاره. ومهما يكن من شيء فلا يجوز أن يقضى بالإعدام الأدبي على امرئ بتصرف أو تصرفين، إنما يقوم الإنسان بمجموع أعماله، فمن رجحت كفة حسناته على سيئاته فهو من أهل الخير، وهكذا يعامل الله عباده ( فمن ثقلت موازينه فأولئك هـم المفلحون ) (المؤمنون:102) .

          وغير هـؤلاء يحكمون على هـؤلاء الشباب من منطلقهم الخاص، من خلال نظرتهم إلى التدين والمتدينين، فهم في نظرهم شواذ أو مرضى، ويعانون عقدا نفسية، وعللا باطنية! وقد يصدق هـذا على أفراد معدودين منهم، ولكنهم في مجموعهم أصح ما يكونون نفسا، وأخلص ما يكونون عملا، وأقرب ما يكونون توافقا بين سرهم وعلانيتهم، وأبعد ما يكونون عن التناقض بين العقيدة والسلوك، وبين الباطن والظاهر.

          وأشهد لقد خالطت هـؤلاء الشباب في أكثر من بلد إسلامي، وعرفت الكثير منهم عن كثب، فلم أر منهم إلا قوة في دين، وصلابة في يقين، وصدقا في قول، وإخلاصا في عمل، وحبا للحق، وكراهية للباطل، [ ص: 136 ] ورغبة في الدعوة إلى الله، وبراءة من الدعوة إلى الطاغوت، وإصرارا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحرقا للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته، واهتماما بأمر المسلمين أينما كانوا، وتطلعا إلى مجتمع يعيش حياة إسلامية متكاملة، توجهها العقيدة، وتحكمها الشريعة، وتضبطها الأخلاق.

          لمست في هـؤلاء الشباب إسلاما جديدا حيا غير إسلامنا التقليدي الميت، وإيمانا متدفقا حارا غير إيماننا الموروث البارد، وإرادة صلبة في فعل الخير غير إرادتنا المخدرة، وجدت قلوبا عامرة بخشية الله وحبه، وألسنة رطبة بذكر الله وتلاوة كتابه، وعزائم معقودة على إحياء العمل بما مات من شرائع الإسلام وسننه.

          رأيت فيهم قوام الليل، وصوام النهار، المستغفرين بالأسحار، المستبقين للخيرات، ولهذا استبشر بهم المستبشرون، وأملوا -وأملت معهم - أن يكون غد الإسلام على أيديهم خيرا.

          وطالما أعلنت في مصر في غير ما مكان: أن أعظم ما في مصر الآن هـو هـذه الثروة البشرية التي لا تقدر قيمتها بشيء مادي، وأعني بها هـذا الشباب الناشئ في طاعة الله ونصرة دينه.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية