الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

          الدكتور / يوسف القرضاوي

          تقدير ظروف النـاس وأعذارهم...

          ومن الفقه المطلوب والمتمم لما ذكرناه: تقدير مستويات الناس وظروفهم وأعذارهم وضعف احتمالهم في مواجهة القوى الضاغطة عليهم.

          فمن الخطأ أن نطالب عموم الناس أن يلحقوا بجوار سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، فيقوموا إلى أئمة الجور، وطواغيت الحكم، فيأمروهم وينهوهم ويأخذوا على أيديهم، ليظفروا بالشهادة في سبيل الله، وهي أعلى وأغلى ما يتمناه مسلم لنفسه.

          فهذه المنزلة فضيلة لا يقدر عليها إلا أولو العزم وقليل ما هـم، وليست فريضة يطالب الناس بها ويحاسبون عليها.

          وقد يكتفي بعض الناس بأن يقول كلمة الحق من بعيد، وقد يلتزم الصمت؛ لأنه لا يرى فائدة من الإنكار باللسان بعد أن رأى شحا مطاعا وهوى متبعا, ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأى أمرا لا يدان له به - كما جاء في حديث أبي ثعلبة الخشني - فعكف على خويصة نفسه، وترك عنه العوام، وقد يرى فائدة الإنكار، ولكنه يعجز عن تحمل نتائجه، فيقتصر على التغيير بقلبه، وذلك أضعف الإيمان.

          وقد يرى البعض أن التغيير إنما يبدأ من القاعدة لا من القمة، وأن الإصلاح يجب أن يتجه إلى الأفراد أولا، فإذا صلحوا صلحت بهم ومعهم [ ص: 185 ] الجماعة، وقد يرى بعض آخر أن تغيير الأنظمة الفاسدة التي قامت على التغريب والعلمانية لا يتم إلا بعمل جماعي، واضح الأهداف، مدروس الوسائل، طويل المراحل، عميق الجذور، تقوم به حركة إسلامية شعبية قادرة على نقل الأحلام إلى واقع معاش.

          ويدخل في هـذه المعاني: أن من الجائز - بل من المطلوب - شرعا، السكوت على المنكر، مخافة وقوع منكر أكبر منه، احتمالا لأهون الشرين، وارتكابا لأخف الضررين، كما تقرر ذلك القواعد الشرعية.

          ومن الأدلة الخاصة لذلك ما ذكره القرآن الكريم عن نبي الله هـارون ، أخي موسى وشريكه في الرسالة إلى فرعون وقومه، فقد ترك موسى أخاه هـارون عليهما السلام، خليفة في قومه، وذهب لمناجاة ربه، وكان ما كان من أمر السامري وعجله الذهبي الذي فتن به بني إسرائيل ، حتى عبدوه ( ولقد قال لهم هـارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري * قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ) (طه: 90-91) .

          وسكت هـارون على هـذا الانحراف الخطير، وأي انحراف أكبر من الشرك وعبادة عجل لا يرجع إليهم قولا، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ولا يهديهم سبيلا؟

          ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا لما أحدثه قومه من بعده، قائلا: بئسما خلفتموني من بعدي، وألقى ألواح التوراة، وأخذ برأس أخيه يجره إليه في حدة وغضب ( قال يا هـارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا * ألا تتبعن أفعصيت أمري ) (طه: 92،93) ، فماذا كان جواب هـارون ( قال يا ابن أم [ ص: 186 ] لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ) (طه: 94) .

          فهنا يعتبر هـارون عليه السلام الحفاظ على وحدة الجماعة حتى يعود زعيمها الأول، حجة له في السكوت على ضلال القوم، حتى لا يقول قائل: إنه تعجل القرار، وفرق الجماعة، ولم ينتظر عودة موسى .

          ومن ذلك حديث عائشة في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: ( لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم ) أي: إنه عليه الصلاة والسلام ترك فعل ما يرى أنه مطلوب خشية أن يثير فتنة - عند قوم لم يتمكن الإسلام من أنفسهم بعد - بسبب هـدم الكعبة وبنائها من جديد.

          ومن ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة إذا لم تكن هـناك قدرة على خلعهم واستبدال آخرين صالحين بهم، مخافة فتنة أكبر، ومفسدة أعظم، تراق فيها الدماء، وتنتهك الحرمات، وتذهب الأموال، ويتزعزع الأمن والاستقرار، دون أن يتحقق تغيير.

          وهذا ما لم يصل الأمر إلى الكفر الصريح، والخروج السافر عن الإسلام, كما في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين ( إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان ) .

          ومن هـنا يتبين لنا خطأ المثاليين الحالمين الذين يطالبون الناس بالإسلام الكامل في عقائدهم وعباداتهم، ومعاملاتهم، وأخلاقهم وآدابهم، أو يتخلوا عن الإسلام بالكلية، فلا وسط عندهم ولا درجات، فإما إسلام تام مطلق أو لا إسلام. [ ص: 187 ]

          حصر هـؤلاء تغيير المنكر في مرتبة واحدة، هـي التغيير باليد، وأسقطوا المرتبتين الأخيرتين، وهما: التغيير باللسان، والتغيير بالقلب، حسب استطاعة المكلف ووسعه.

          ونسي هـؤلاء أن التكليف في شرع الإسلام بحسب الطاقة والوسع، وأن طاقات الناس تتفاوت، وظروفهم تختلف، ولهذا راعى الشرع الأعذار والضرورات، وجعل لها أحكامها الخاصة، حتى إنه ليبيح بها المحظورات، ويسقط الواجبات.

          وما أعدل ما قاله الإمام ابن تيمية في ذلك:

          إن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، كقوله: ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة: 286) ، وقوله تعالى: ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها ) (الأعراف: 42) ، وقوله: ( لا تكلف نفس إلا وسعها ) (البقرة: 233) ، وقوله: ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) (الطلاق: 65) .

          وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة، فقال: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (التغابن: 16) ، وقد دعاه المؤمنون بقولهم: ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) (البقرة: 286) ، فقال: (قد فعلت) فدلت هـذه النصوص على أنه لا يكلف نفسا ما تعجز عنه، خلافا للجهمية المجبرة، ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطئ والناسي خلافا للقدرية والمعتزلة . [ ص: 188 ]

          وهذا فصل الخطاب في هـذا الباب. فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومفت وغير ذلك: إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هـذا هـو الذي كلفه الله إياه، وهو مطيع لله، إذا اتقاه ما استطاع، ولا يعاقبه الله البتة، خلافا للجهمية المجبرة، وهو مصيب، بمعنى: أنه مطيع لله، لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه، خلافا للقدرية والمعتزلة في قولهم: كل من استفرغ وسعه علم الحق، فإن هـذا باطل كما تقدم، بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب.

          وكذلك الكفار: من بلغه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في دار الكفر، وعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن بما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع، كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام, ولا التزام جميع شرائع الإسلام, لكونه ممنوعا من الهجرة وممنوعا من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام: فهذا مؤمن من أهل الجنة، كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وكما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفارا، ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام, فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه، قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: ( ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هـلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ) (غافر:34) .

          وكذلك النجاشي هـو وإن كان ملك النصارى، فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه نفر منهم، ولهذا لما مات لم يكن هـناك أحد يصلي عليه، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، خرج بالمسلمين [ ص: 189 ] إلى المصلى فصفهم صفوفا وصلى عليه، وأخبرهم بموته يوم مات، وقال: إن أخا لكم صالحا من أهل الحبشة مات.

          وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل قد روي أنه لم يصل الصلوات الخمس، ولا كان يصوم رمضان، ولا يؤدي الزكاة الشرعية، لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم، ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن، والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه.

          وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم، وفي الديات بالعدل، والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع، النفس بالنفس والعين بالعين، وغير ذلك، والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما، وفي نفسه أمور من العدل ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

          وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سم على ذلك. فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها. [1]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية