الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

          الدكتور / يوسف القرضاوي

          لا تتطرفوا في تصوير التطرف ...

          وكذلك أرى أن من واجب كل من تصدى لعلاج هـذا الأمر أن يتصف بالاعتدال والاتزان في حكمه، وألا يكون هـو متطرفا في حديثه عن التطرف ، وطريقة علاجه. [ ص: 137 ]

          وأول سمات الاعتدال هـنا: ألا نبالغ في تصور هـذا التطرف المزعوم وتصويره، وفي الخوف والتخويف منه، ونجعل - على طريقتنا - من الحبة قبة، ومن القط جملا! والمبالغة هـنا ضارة كل الضرر؛ لأنها تشوه الحقائق، وتقلب الموازين، وتفسد الرؤية الصحيحة للأشياء، وبالتالي يجيء الحكم لها أو عليها جائرا أو ناقصا.

          ومما يؤسف له أن كثيرا مما يقال أو يكتب، أو مما قيل أو كتب، بعد أزمة الشباب المسلم واصطدام السلطة به، وظهور ما سمي بـ " التطرف الديني " لم يخل من مبالغة وتطرف في تناول الموضوع، تأثرا بالجو المعبأ المشحون ضد الشباب، وجريا على ما عليه أغلب الناس.

          كما قال الشاعر العربي قديما:

          والناس من يلق خيرا قائلون له ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل!

          حتى ضاق أحد أساتذة علم الاجتماع المراقبين لهذه الظاهرة فكتب في صحيفة الأهرام القاهرية -الأستاذ الدكتور سعد الدين إبراهيم - يستغيث من الذين يكتبون في هـذه القضية بغير علم ولا هـدى ولا كتاب منير.

          وكان أولى بهؤلاء أن يسكتوا، أو يتكلموا بالحق والعدل، والنظر إلى هـذا التطرف نظرة واقعية معتدلة.

          فكثيرا ما يكون التطرف في التدين رد فعل لتطرف مناقض: تطرف في التحلل من الدين والإزراء عليه، والسخرية به، وهنا يكون هـذا اللون من التطرف أمرا طبيعيا؛ لأنه مساير لقوانين الفعل ورد الفعل... وهو جدير بأن ينبه أولئك الشاردين للرجوع إلى الوسط المعتدل، وبالتالي يعود هـؤلاء ليلتقوا مع أولئك في منتصف الطريق. [ ص: 138 ]

          ومعنى هـذا أن الحياة نفسها كثيرا ما تحتاج إلى قدر من التطرف، لنقاوم به تطرفا آخر مضادا له، حتى تعتدل كفتا الميزان بين المتشددين والمتسيبين، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وهذا ما توجبه سنة التدافع بين الناس ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) (البقرة:251) .

          والعجيب أن المتطرفين في جانب التحلل من قيود الدين، والمجافاة لقيمه وفضائله لا يلقون من الإنكار والمعارضة ما يلقاه المتطرفون في جانب التمسك بالدين والولاء له، وكان المفروض أن ينكر التطرف بشقيه.

          فهل من الإنصاف أن ننحي باللائمة، ونصب جام غضبنا على الشاب الذي يعيش للإسلام وبه، محافظا على الصلوات، هـاجرا للمنكرات، محصنا فرجه، غاضا بصره، حافظا لسانه، يتحرى الحلال، ويتوقى الحرام، حريصا على كل ما يعتقد أنه من أدب الإسلام، من لحية يطيلها، وثوب يقصره، وسواك يراه مطهرة للفم، مرضاة للرب، صائنا لوقته من اللغو، ولماله من الإضاعة فيما لا يفيد، حتى السيجارة لا يتناولها.. ننكر على هـذا الشاب الناشئ في طاعة الله مهما يكن متشددا أو متزمتا.. على حين نسكت عن الشباب الذين أضاعو الصلاة، واتبعوا الشهوات، من المائعين الذائبين الذين لا تكاد تميز الفتى فيهم عن الفتاة، الذين لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، ممن فقدوا أصالتهم، ومشوا وراء الغرب، فكرا وسلوكا، حذوا النعل بالنعل!!

          هل من الإنصاف أن يتعالى الصراخ ويشتد النكير على ما سمي [ ص: 139 ] " التطرف الديني " وأن يلوذ الجميع بالصمت تجاه " التطرف اللاديني " ؟!!..

          هل من الإنصاف أن ننكر على الفتاة التي تلبس النقاب على وجهها، ونسخر منها ومن زيها، وهي لم تفعل ذلك إلا إرضاء لربها، واتباعا لدينها، حسبما فهمت أو أفهمت، على حين نرى الصنف الآخر من الفتيات مميلات مائلات، كاسيات عاريات، بل عاريات غير كاسيات! في الشوارع وعلى الشواطئ، أو في الأفلام والمسلسلات، ولا يحرك أحد ساكنا، ولا ينبس ببنت شفة؛ لأن هـذا من " الحرية الشخصية " التي كفلها الدستور! فهل حفظ الدستور الحرية الشخصية في جانب العري والابتذال، وصادرها في جانب التصون والاحتشام؟!

          ولو أن المجتمع وقف موقفا إيجابيا من المتنكرين للدين والمتحللين من أحكامه وغير ما يراه من المنكر بيده أو بلسانه. ما وجدت عندنا ظاهرة التطرف في الدين، ولو وجدت

          - لسبب أو لآخر - لكانت أخف وطأة مما ظهرت به.

          ثم إن العالم اليوم يزخر بأنواع من التطرف منه ما يتعلق بالدين، ومنه ما يتعلق بالسياسة، ومنه ما يتصل بالفكر، ومنه ما يتصل بالسلوك.

          وإذا نظرنا إلى التطرف الديني وجدناه في كل بلاد الدنيا، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، والمتطرفون الدينيون من غير المسلمين يعلنون عن أنفسهم بأقوال وأعمال وتصرفات تتسم بالتزمت أو العنف، ومع هـذا لم ينكر العالم عليهم ما أنكره على من سموهم المتطرفين المسلمين، ولم تقف دولهم منهم موقف دول البلاد الإسلامية من هـؤلاء. [ ص: 140 ]

          رأينا التطرف الديني اليهودي في دولة الكيان الصهيوني " إسرائيل " ويتمثل ذلك في أحزاب ومنظمات تصرح بأهدافها، وتعلن عن مبادئها، في غير وجل ولا خجل، بل إن الدولة المغتصبة نفسها ما قامت إلا بوحي هـذا التطرف، الذي استوحوه من أسفارهم وتلمودهم، وعلمهم أنهم وحدهم شعب الله المختار، وأن الأمم يجب أن تكون في خدمتهم، وأن ليس عليهم في الأميين سبيل، وأن دماء الآخرين وأموالهم وأوطانهم حلال في سبيل تحقيق مآربهم.

          ورأينا التطرف الديني النصراني في لبنان ، حيث يقوم " الكتائبيون " وأنصارهم بذبح المسلمين، وقطع مذاكيرهم وتعليقها في أفواههم، والتمثيل بجثثهم، وانتهاك حرمات نسائهم المسلمات بطرائق وحشية، وإحراق مصاحفهم، وكتبهم الدينية، ووطئها بالأقدام، وإهانة كل ما يدل على هـويتهم الإسلامية، والعجيب أن يصنع هـذا وأكثر منه تحت شعار النصرانية وباسم المسيح رسول المحبة والسلام، والذي قال لأتباعه: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، ومن ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر!

          رأينا التطرف الديني النصراني في لبنان، ورأيناه في قبرص ضد الأتراك المسلمين، ورأيناه في أثيوبيا ضد الإرتريين المسلمين، وفي الفلبين ضد الجنوبيين المسلمين، ورأينا متطرفين من الكاثوليك وآخرين من الأرثوذكس ، وآخرين من البروتستانت .

          ورأينا التطرف الديني الوثني في الهند حيث تقوم أحزاب هـندوسية متعصبة جعلت أكبر هـمها قهر المسلمين، بل القضاء عليهم، ولا يكاد يمر [ ص: 141 ] عام دون أن تقوم مجزرة بشرية، ضحاياها أرواح الأبرياء من المسلمين المسالمين، والعجيب أن الذين يذبحون البشر، كما تذبح النعاج أو الدجاج، يحرمون - من فرط رقتهم وحنوهم - ذبح النعاج والدجاج، لأنها ذات روح!! ولا يستخدمون المبيدات الحشرية ضد البعوض والديدان ونحوها، لأنها ذات روح!! ويدعون الفئران تأكل ملايين الأفدنة من القمح ولا يتعرضون لها، لأنها ذات روح!! كأن البشر المسلمين وحدهم ليس لهم أرواح كأرواح الفئران أو البعوض والديدان!!!

          وإلى جوار هـذا ينبغي أن نعلم أننا في عصر القلق والتمرد، وهذا ناتج من الموجة المادية التي طغت على تفكير البشر وسلوكهم في هـذا العصر الذي وصل فيه الإنسان إلى القمر، في حين لم يستطع أن يسعد نفسه على ظهر الأرض.

          لقد نجحت الحضارة في الجانب المادي، ولكنها أفلست في الجانب الروحي.

          وهذا ما جعل الشباب الغربي من " الهيبيز " وغيرهم يثور على مادية الحضارة، وآلية الحياة، ويخرج إلى البراري والريف، تاركا الأزرار الأوتوماتيكية ، والوسائل التكنولوجية ، فقد شعر برغم كل أدوات الرفاهية بالضياع، ولم يعرف للحياة هـدفا ولا معنى، ولم تستطع الحضارة الصناعية أن تجيبه عن أسئلته: من أنا؟ وما رسالتي؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين أذهب؟.

          هذا التمرد والقلق وجد له صدى في أوطاننا على صور شتى، بعضها كان تحللا من الدين وفضائله، وبعضها كان اندفاعا نحو الدين، فقد وجد [ ص: 142 ] الكثير من الشباب عندنا لأسئلته جوابا في الإسلام، فرجع إليه بقوة، واندفع نحوه بحرارة، واجتمعت حرارة الشباب إلى حرارة الإيمان فكان لهما لهب يضيء وربما يحرق.

          وليس منطقيا أن نتوقع الهدوء في عصر التمرد، ونلتمس الاعتدال في عالم يسوده التطرف، ونطلب حكمة الشيوخ من الشباب المتحمس، والإنسان ابن بيئته وعصره، وكل منهما يفرز من الأحداث والأفكار ما يناسبه، كما أن كل إناء ينضح بما فيه.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية