الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

          الدكتور / يوسف القرضاوي

          اللجوء إلى العنف والتعذيب لا يقاوم التطرف بل يخلقه :

          وتبلغ الأسباب هـنا منتهاها حين تلجأ السلطات إلى استخدام العنف والتعذيب البدني والنفسي، داخل السجون والمعتقلات التي يساق الناس التي يساق الناس إليها بالسياط، ويعاملون فيها أدنى مما تعامل الحيوانات في الحظائر.

          ولقد رأى المتدينون المسلمون خاصة داخل تلك السجون من ألوان الإيذاء والعذاب ما تقشعر من ذكره الأبدان، وما تشيب من هـوله الولدان.. واسألوا السجن الحربي وغيره عما وقع في سنة 1954م، وسنة 1965م من صنوف التنكيل والتعذيب، لقد شويت الأجسام الغضة بالكرابيج شيا، وكويت بالنيران وأعقاب السجاير كيا، علق الرجال - وأحيانا النساء! - من أرجلهم كما تعلق الذبائح، يتناوبهم الجلادون واحدا بعد آخر، كلما تعب أحدهم من طول الجلد أراحه آخر، حتى يصير الجسم كومة من الدم والقيح والصديد، وكم من أناس سقطوا شهداء تحت العذاب، لم يرق لهم، ولم يعبأ بهم القساة الجبارون، الذين لم يخشوا خالقا، ولم يرحموا مخلوقا. [ ص: 125 ]

          لقد استخدموا كل ما عرفوا مما وصلت إليه النازية والفاشية والشيوعية، وزادوا على ذلك أساليب ابتدعوها في إيذاء الأبدان، وتعذيب النفوس، وغسل الأمخاخ، وإهدار الآدمية!

          في داخل هـذا الأتون المحمى لتعذيب البشر ولد التطرف، ونبتت فكرة " التكفير " ووجدت في هـذا الجو اللاهب عاملا مساعدا على الاستجابة لها.

          لقد بدأ هـؤلاء المعذبون بسؤال بسيط لأنفسهم: لم كل هـذا العذاب يصب علينا؟ وأي جريمة اقترفناها، إلا أن قلنا: ربنا الله، ومنهجنا الإسلام ودستورنا القرآن؟ وما نريد من أحد جزاء، ولا شكورا، إلا أن نؤيد واجبنا نحو ديننا، وأن يرضى الله تعالى عنا، أيمكن أن يكون العمل للإسلام في بلد إسلامي جناية ينكل بنا من أجلها كل هـذا النكال؟!

          وانتقلوا من هـذا السؤال إلى سؤال آخر: هـؤلاء الوحوش الذين ينشهون لحومنا، ويضربوننا إلى أن نخر صرعى، يدوسون إنسانيتنا بأقدامهم، ويسبون ديننا، وينتهكون حرماتنا ويسخرون من صلاتنا وعبادتنا، ويجترئون أحيانا حتى على ربنا، هـل يعدون مسلمين؟ وأين الكفر إذن إذا كان هـؤلاء مسلمين؟ لا. إن هـؤلاء كفار خارجون من الملة ولا دين لهم.

          وانتقلوا من هـذا السؤال إلى سؤال آخر: إذا كان هـذا حكم هـؤلاء الذين يعذبوننا إلى الموت فما حكم سادتهم الذين يأمرونهم ويوجهونهم ويصدرون إليهم القرارات؟ ما حكم أولئك القادة والحكام الذين في أيديهم سلطة الأمر والنهي والإبرام والنقض، الذين لم يحكموا بما أنزل الله، ولم يكتفوا بذلك حتى حاربوا بكل شدة كل من يدعو إلى الحكم بما أنزل الله؟ [ ص: 126 ]

          هؤلاء بالنظر إلى أولئك، أشد كفرا، وأصرح ردة عن الإسلام. وحسبنا فيهم قول الله تعالى: ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الكافرون ) (المائدة: 44) .

          وبعد أن اقتنعوا بهذه النتيجة، وآمنوا بها، انتقلوا إلى سؤال رابع، توجهوا به إلى من معهم من السجناء والمعتقلين: ما قولكم في هـؤلاء الحكام الذين لم يحكموا بما أنزل الله، وزادوا على ذلك التنكيل بكل من دعا إلى حكم الله؟

          فمن وافقهم على تكفيرهم فهو منهم، ومن خالفهم أو توقف في الأمر فهو كافر مثلهم، لأنه شك في كفر الكفار، ومن شك في كفر الكافر فهو كافر.

          ولم يقفوا عند هـذا الحد، فقد انتقلوا إلى سؤال خامس: هـذه الجماهير التي تطيع هـؤلاء الحكام وتخضع لهم، وهم يحكمون بغير ما أنزل الله، ما حكم هـؤلاء؟

          وكان الجواب حاضرا عند هـؤلاء: إنهم كفار مثلهم، فقد رضوا بكفر هـؤلاء الحكام وأقروه وصفقوا له، والرضى بالكفر كفر لا شك.

          ومن هـذا المنطلق انتشرت موجة تكفير الناس بالجملة، وتفرعت عن هـذه الفكرة الأساسية أفكار فرعية متطرفة أخرى، وكانت البداية هـناك في السجن الحربي العتيد.

          إنها سنة الحياة المشاهدة المجربة: إن العنف لا يولد إلا عنفا، وشدة الضغط لا يكون من ورائها إلا الانفجار. [ ص: 127 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية