الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

          الدكتور / يوسف القرضاوي

          افتحوا النوافذ لنسيم الحرية ...

          ثم علينا بعد ذلك أن نضرب صفحا عن تلك الأساليب القديمة البالية التي يفكر فيها دائما رجال المباحث وأجهزة الأمن، وهي أساليب العنف والتعذيب والتصفية الجسدية.

          وأن يشيع جو الحرية، ونرحب بالنقد، ونحيي روح النصيحة في الدين، ونقول ما " قال عمر رضي الله عنه : مرحبا بالناصح أبد الدهر، مرحبا بالناصح غدوا وعشيا.. رحم الله امرءا أهدى إلي عيوب نفسي! "

          وهكذا كان ابن الخطاب رضي الله عنه ، يشجع ويؤيد كل ناصح له أو مشير عليه، أو ناقد لتصرف من تصرفاته.

          " قال له رجل: اتق الله يا أمير المؤمنين.. فأنكر عليه بعض الحاضرين، ولكن عمر قال له: دعه، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نسمعها!

          " [ ص: 143 ]

          وخطب يوما فقال: أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجا فليقومني، فقال له رجل: والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا.. فلم يغضب عمر من قوله، ولم يأمر بحبسه أو التحفظ عليه أو التحقيق معه، بل قال له في ثقة وارتياح: الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بحد سيفه!!

          وفي جو الحرية تظهر الأفكار في النور، فيمكن لأهل العلم مناقشتها، وتسليط أضواء النقد عليها، فتثبت وتبقى، أو تختفي وتذهب، أو تعدل وتهذب، بدل أن تظل في ظلام السراديب التحتية، تلقن بلا مناقشة، وتطرح بلا معارضة، وتتفاقم وتستفحل يوما بعد يوم، حتى يفاجأ الناس بها، وقد شبت عن الطوق، ولم يشهدوا قبل ذلك ولادتها ولا طفولتها.

          إن علينا أن نستحضر أن هـذا التطرف مصدره الفكر، ولهذا ينبغي أن يكون علاجه بالفكر أيضا، فلا يفل القلم إلا القلم، ولا يقاوم الشبهة إلا الحجة، ولا يعارض كلام اللسان بكلم السنان.

          ومن أكبر الخطأ اللجوء إلى القوة والبطش، لتصفية هـذا الفكر، ومطاردة أهله، فإنه يختفي بالاضطهاد ولا يموت، ويكمن كمون النار في الكبريت ولا يزول.

          إنما الواجب مخاطبة العقول المبلبلة حتى تستقيم، وطول الحوار بالحسنى حتى يزول اللبس، ويتضح الصبح لذي عينين، حتى وإن حملوا السلاح يجب أن يؤخذ منهم السلاح ولا يضربوا به.

          أما دعاة " الأيديولوجيات " الانقلابية، ورجال المخابرات والمباحث، الذين ينادون بالسحق حتى العظم، والتعذيب حتى الموت، والتصفية [ ص: 144 ] حتى آخر فرد، فهم بهذا لا يقضون على التطرف، بل يزيدون ناره اشتعالا، كل ما يستطيعونه أن يقصوا أجنحته حينا من الدهر، ولكن سرعان ما ينبت الريش المقصوص، ويحلق الطائر المهيض الجناح!

          حتى لو استطاعوا بالتصفية الجسدية أن يقضوا على جماعة متطرفة، فإنهم في نفس اللحظة يهيئون لميلاد جماعة بل جماعات أخرى قد تكون أشد تطرفا وعنفا.

          ومن ثم كان واجبنا الأول العمل على تكوين وعي إسلامي رشيد، يقوم على فقه مستنير لأحكام الإسلام.. فقه ينفذ إلى الأعماق، ولا يقف عند السطوح، ويهتم باللباب قبل الاهتمام بالقشور.. فقه يرد الفروع إلى الأصول، والجزئي إلى الكلي، والظني إلى القطعي، ويأخذ الأحكام من المنابع الأصلية، غير مكتف بالقنوات الفرعية.

          وإيجاد مثل هـذا النوع من الوعي والفقه أمر ليس بالهين، وتحويل الإنسان من فكر اعتنقه وآمن بصحته - صوابا كان أم خطأ - يحتاج إلى جهد صادق، وصبر مصابر، واستعانة بالله.

          وأصحاب السلطان يتصورون - أو يصور لهم - قرب هـذا الأمر ويسره وسهولته، وما عليهم إلا أن يجندوا أجهزة الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، فإذا العقول قد تغيرت، وإذا القلوب قد تحولت، وإذا الوجهة قد تبدلت، فاستدار الناس من شرق إلى غرب أو من يمين إلى يسار!

          وجهل هـؤلاء أو تجاهلوا: أن أعجز الناس عن التغيير المنشود، وإيجاد الوعي المطلوب: ألسنة السلطة وأقلامها وأجهزتها. فكلامهم مرفوض شكلا، غير مقبول أصلا. [ ص: 145 ]

          ومن الوقائع المجربة ما حدث في بعض الأقطار، في بعض العهود، من تسخير العلماء والمحاضرين لتوعية المعتقلين، وغسل عقولهم مما علق بها من أفكار! فما أجدى هـذا كله فتيلا، ولم تلق هـذه الدروس والمواعظ والمحاضرات إلا السخرية منها ومن قائليها.

          إن التفقيه المنشود لا يمكن أن يقوم به إلا علماء بعيدون عن تأثير السلطان ورغبه ورهبه، حائزون على ثقة هـؤلاء الشباب: ثقتهم بأصالة علمهم، وثقتهم بقوة دينهم. ولا يتحقق هـذا إلا في مناخ طبيعي حر، بعيد عن بريق الوعود، وسوط الوعيد، لا تحده أبواب مغلقة، ولا أسوار محدقة.

          ولا يتم مثل هـذا بين عشية وضحاها بالتلقين الفوقي، أو الأوامر العسكرية، إنما يتم باللقاء الحر، والحوار البناء، والأخذ والرد، وعلى المدى الطويل.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية