الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          5- عايشوا جماهير الناس

          وأنصح الشباب -خامسا - أن ينزلوا من سماء الأحلام والمثالية المجنحة إلى أرض الواقع، ليعايشوا الناس، الجماهير من المواطنين والحرفيين والفلاحين والعمال وغيرهم من الجاهدين والمجاهدين، في الأحشاء الدقاق من المدن الكبيرة، إلى الحارات والأزقة، في القرى الكادحة، وسيجدون هـناك الفطرة السليمة، والقلوب الطيبة، والأجسام المكدودة من العمل.

          أوصي الشباب أن ينزلوا إلى هـؤلاء في مواقعهم، ليسهموا في تعليم الأميين حتى يقرأوا، وفي علاج المرضى حتى يصحوا، وفي تقوية المتعثرين حتى ينهضوا، وفي مساعدة المتبطلين حتى يعملوا، وفي معاونة المحتاجين حتى يكتفوا، وفي توعية المتخلفين حتى يتطوروا، وفي تذكير العصاة حتى يتوبوا، والأخذ بيد المنحرفين حتى يستقيموا، وكشف المنافقين حتى يختبئوا، ومطاردة المرتشين حتى يرتدعوا، وإنصاف المظلومين حتى ينتعشوا.

          على الشباب أن ينشئوا لجانا لمحو الأمية، وجمع الزكاة وتوزيعها، ولإصلاح ذات البين، ولمحاربة الأمراض المتوطنة، ولمعالجة الإدمان على التدخين أو المسكرات أو المخدرات، ولمقاومة العادات الضارة، ونشر العادات الصالحة بديلا عنها.

          وما أكثر الميادين التي تحتاج إلى جهود الشباب، وعزائم الشباب، وحماس الشباب!

          يا شباب الإسلام، لا تتقوقعوا على أنفسكم، تاركين الشعب وهم [ ص: 218 ] آباؤكم وأمهاتكم وإخوانكم وأرحامكم. انزلوا إلى الشعب واختلطوا به، وعيشوا في هـمومه، وشاركوه متاعبه، اربتوا على أكتاف المهمومين، امسحوا دموع اليتامى، ابتسموا في وجوه البائسين، خففوا الحمل عن كواهل المتعبين، أغيثوا الملهوفين، اجبروا كسر المكسورين، داووا جراح القلوب الحزينة، بموقف عملي، أو بكلمة طيبة، أو ببسمة صادقة.

          إن القيام بخدمة المجتمع، وتقديم العون له - وخصوصا للفئات الضعيفة فيه - عبادة رفيعة القدر، لم يحسنها كثير من المسلمين اليوم، برغم ما ورد في الإسلام من تعاليم تدعو إلى فعل الخير، وتأمر به، وتجعله فريضة يومية على الإنسان المسلم.

          ولقد بينت في كتابي " العبادة في الإسلام " : أن الإسلام قد فسح مجال العبادة ووسع دائرتها، بحيث شملت أعمالا كثيرة لم يكن يخطر ببال الناس أن يجعلها الدين عبادة وقربة إلى الله.

          إن كل عمل اجتماعي نافع يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادات، ما دام قصد فاعله الخير، لا تصيد الثناء، واكتساب السمعة الزائفة عند الناس، كل عمل يمسح به الإنسان دمعة محزون، أو يخفف به كربة مكروب، أو يضمد به جراح منكوب، أو يسد به رمق محروم، أو يشد به أزر مظلوم، أو يقيل به عثرة مغلوب، أو يقضي به دين غارم مثقل، أو يأخذ بيد فقير متعفف ذي عيال، أو يهدي حائرا، أو يعلم جاهلا، أو يؤوي غريبا، أو يدفع شرا عن مخلوق، أو أذى عن طريق، أو يسوق نفعا إلى ذي كبد رطبة، فهو عبادة وقربة إلى الله إذا صحت فيه النية. [ ص: 219 ]

          أعمال كثيرة من هـذا النوع جعلها الإسلام من عبادة الرحمن، وشعب الإيمان، وموجبات المثوبة عند الله تعالى.

          وإننا لنقرأ أحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في هـذا الباب، فنرى أنه لم يكتف بفرض هـذه العبادة العامة على الإنسان من حيث هـو إنسان فحسب، بل يشتد في طلبها، فيفرضها على كل ميسم من مياسمه، أو كل مفصل من مفاصله!

          فيروي أبو هـريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل في دابته، فيحمله أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة. ) [1]

          ويروي ابن عباس نحو هـذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( على كل ميسم من الإنسان صلاة كل يوم! فقال رجل من القوم: هـذا من أشد ما أنبأتنا به! قال: أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صلاة، وحملك عن الضعيف صلاة، وإنحاؤك القذر من الطريق صلاة وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صلاة ) [2]

          ونحو ذلك ما رواه بريدة عنه صلى الله عليه وسلم قال: ( في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة. قالوا: فمن يطيق ذلك يا رسول الله؟ - ظنوها صدقة مالية- قال: النخامة في المسجد تدفنها، والشيء تنحية عن الطريق.. ) " [3] [ ص: 220 ]

          وقد وردت أحاديث عديدة تجعل تبسم المسلم في وجه أخيه صدقة، وإسماع الأصم، وهداية الأعمى، وإرشاد الحيران، ودلالة المستدل على حاجته، والسعي بشدة الساقين مع اللهفان المستغيث، والحمل بشدة مع الضعيف، وما يدور في هـذا الفلك من الأعمال، عده رسول الله عبادة كريمة، وصدقة طيبة.

          وبهذا يعيش المسلم في مجتمعه ينبوعا يفيض بالخير والرحمة، ويتدفق بالنفع والبركة، يفعل الخير ويدعو إليه؛ ويبذل المعروف ويدل عليه، فهو مفتاح للخير، ومغلاق للشر، كما حثه النبي الكريم، كما في حديث ابن ماجه ( طوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر ) .

          يقول بعض المتحمسين:

          ولكن هـذه الأعمال الاجتماعية تعطل المشتغل بها عن نشر الدعوة إلى الإسلام، وتوعية الناس بحقيقته، وهذا أوجب ما يجب الاشتغال به.

          وأقول لهؤلاء: إن العمل الاجتماعي هـو لون من الدعوة، فهي دعوة للناس في مواقعهم، وهي دعوة مقترنة بالعمل.

          فالدعوة ليست مجرد كلام يقال أو يكتب، بل الاهتمام بأمر الناس، وحل مشكلاتهم يقربهم من الفكرة، ورحم الله الإمام حسن البنا ، فقد وعى ذلك كل الوعي، وأنشأ مع كل شعبة يفتحها قسما للبر والخدمة الاجتماعية.

          ثم إن المسلم مأمور بفعل الخير للناس، مثلما أمر بالركوع والسجود وعبادة الله تعالى. يقول القرآن: ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا [ ص: 221 ] واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده هـو اجتباكم .. ) (الحج: 77/78) .

          فهذه شعب ثلاث لرسالة المسلم في الحياة: شعبة تحدد علاقته بالله، وتتمثل في عبادة الله تعالى.. وشعبة تحدد علاقته بالمجتمع، وتتمثل في فعل الخير.. وشعبة تحدد علاقته بقوى الشر، وتتمثل في الجهاد في الله حق الجهاد..

          فمن شغل نفسه بفعل الخير في المجتمع لم يشغل نفسه إلا بما أوجب الله عليه، ومن فعل ذلك فهو مأجور عند الله، محمود عند الناس.

          ويقول بعض هـؤلاء المتحمسين أيضا:

          إن جهود الداعين إلى الإسلام يجب أن تتركز في إقامة الدولة الإسلامية، التي تحكم بما أنزل الله، وتقيم الحياة كلها على أساس الإسلام, تطبقه في الداخل، وتبلغه في الخارج.

          وحين تقوم هـذه الدولة، ستتولى هـي كل ما ذكرت من حاجات المجتمع ومطالبه، ستوفر التعليم لكل جاهل، والعمل لكل عاطل، والضمان لكل عاجز، والكفاية لكل محتاج، والدواء لكل مريض، والإنصاف لكل مظلوم، والقوة لكل ضعيف... وعلينا أن نعمل لإيجاد هـذه الدولة، ولا نضيع الوقت في ترقيعات جزئية، وإصلاحات جانبية، أشبه بالأقراص المسكنة للآلام، وليست بالأدوية التي تستأصل الأمراض من جذورها. ونقول لهؤلاء الإخوة:

          إن إقامة الدولة المسلمة، التي تحكم بشريعة الله، وتجمع المسلمين على الإسلام, وتوحدهم تحت رايته، فريضة على الأمة الإسلامية، [ ص: 222 ] يجب أن نسعى إليها، وعلى الدعاة إلى الإسلام أن يعملوا بكل ما يستطيعون للوصول إليها، متخذين أمثل المناهج، سالكين أفضل السبل، ليجمعوا الجهود المبعثرة، ويقنعوا العقول المرتابة، ويزيحوا العوائق الكثيرة، ويربوا الطلائع المنشودة، ويهيئوا الرأي العام المحلي والعالمي لتقبل فكرتهم وقيام دولتهم.

          وهذا كله يفتقر إلى وقت طويل، وصبر جميل، حتى تتهيأ الأسباب، وتزول الموانع، وتتوافر الشروط، وتنضج الثمرة.

          وإلى أن يتحقق هـذا الأمل، ينبغي أن يشتغل الناس بما يقدرون عليه، ويتمكنون منه، من خدمة لأهليهم، وإصلاح لمجتمعاتهم، التي يحيون بين ظهرانيها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. على أن في ذلك تربية للطلائع المرجوة، وصهرا لها، وامتحانا لقدرتها على قيادة المجتمع والتأثير فيه.

          ولا يجمل بمسلم يرى مريضا يستطيع أن يقدم له العلاج عن طريق مستوصف شعبي، أو مستشفى خيري، فيرفض ذلك حتى تقوم الدولة الإسلامية، فتتولى هـي علاج المرضى!

          ولا يحسن بمسلم يرى الفقراء والأرامل والعاجزين، وهو قادر على أن يعاونهم بإنشاء صندوق للزكاة، يأخذها من الأغنياء ليردها إلى الفقراء، فلا يفعل حتى تقوم الدولة المسلمة، فتقوم هـي بهذا الدور، عن طريق تكافل اجتماعي شامل.

          ولا يليق بمسلم يرى الناس من حوله يختصمون ويقتتلون، فيقف متفرجا، ونار الخصومة تأكل أخضرهم ويابسهم، منتظرا قيام الدولة [ ص: 223 ] الإسلامية، لتصلح بين الناس بالقسط، وتقاتل الفئة التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله.

          إنما الذي يليق بالمسلم أن يقاوم الشر ما أمكنه، ويفعل الخير ما استطاع، ولا يقف مكتوف اليدين، وفي قدرته أن يعمل مثقال ذرة من خير، والله تعالى يقول: ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (التغابن: 16) . ولقد ضربت مثلا للدولة المسلمة المنشودة بأشجار الزيتون والنخيل تغرس في بستان، لا ينتظر أن تؤتي ثمارها إلا بعد سنين، فهل يقف صاحب البستان بلا عمل يعمله، ولا ثمرة يقطفها، حتى يثمر النخيل والزيتون؟ كلا، إنه يزرع من الخضروات والزروع ما هـو أسرع نتاجا وأقرب ثمرة، وبذلك يخصب أرضه، ويعمر وقته، ويشغل نفسه بما ينفعه وينفع من حوله، وفي الوقت ذاته يتعهد زيتونه ونخله بالرعاية حتى يأتي أوان حصاده بعد حين.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية