الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف

          الدكتور / يوسف القرضاوي

          الغلظـة والخشـونة

          4 - ومن مظاهر التطرف: الغلظة في التعامل، والخشونة في الأسلوب، والفظاظة في الدعوة، خلافا لهداية الله تعالى، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم . [ ص: 45 ]

          فالله تعالى يأمرنا أن ندعو إلى الله بالحكمة لا بالحماقة، وبالموعظة الحسنة، لا بالعبارة الخشنة، وأن نجادل بالتي هـي أحسن ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن ) (النحل:125) .

          ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) (التوبة:128) .

          وخاطب رسوله مبينا علاقته بأصحابه: ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) (آل عمران: 159) .

          ولم يذكر القرآن الغلظة والشدة إلا في موضعين:

          1- في قلب المعركة ومواجهة الأعداء، حيث توجب العسكرية الناجحة، الصلابة عند اللقاء، وعزل مشاعر اللين حتى تضع الحرب أوزارها، وفي هـذا يقول تعالى: ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ) (التوبة:123) .

          2- والثاني في تنفيذ العقوبات الشرعية على مستحقيها، حيث لا مجال لعواطف الرحمة في إقامة حدود الله في أرضه: ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) (النور:2) .

          أما في مجال الدعوة، فلا مكان للعنف والخشونة، وفي الحديث الصحيح: ( إن الله يحب الرفق في الأمر كله ) ، وفي الأثر: " من أمر [ ص: 46 ] بمعروف، فليكن أمره بمعروف " ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا دخل العنف في شيء إلا شانه ) .

          ولا شيء يشينه العنف إذا دخله، مثل الدعوة إلى الله، فإنها تحاول أن تدخل إلى أعماق الإنسان، لتجعل منه شخصا ربانيا في مفاهيمه ومشاعره وسلوكه، وتبدل كيانه كله وتنشئ منه خلقا آخر، فكرا وشعورا وإرادة، كما أنها تهز كيان الجماعة هـزا، لتغير عقائدها المتوارثة، وتقاليدها الراسخة، وأخلاقها المتعارفة، وأنظمتها السائدة..

          وهذا كله لا يمكن أن يتم إلا بالحكمة وحسن التأتي للأمور، والمعرفة بطبيعة الإنسان وعناده، وجموده على القديم، وأنه أكثر شيء جدلا، فلا بد من الترفق في الدخول إلى عقله، والتسلل إلى قلبه، حتى نلين من شدته، ونكفكف من جموده، ونطامن من كبريائه.

          وهذا ما قصه علينا القرآن من مسالك الأنبياء والدعاة إلى الله من المؤمنين الصادقين، كما نرى في دعوة إبراهيم لأبيه وقومه، ودعوة شعيب لقومه، ودعوة موسى لفرعون، ودعوة مؤمن آل فرعون، ومؤمن سورة " يس " وغيرهم من دعاة الحق والخير.

          انظر إلى مؤمن آل فرعون كيف وقف يخاطب فرعون ومن معه، إنه يشعرهم بأنهم قومه، وأنه واحد منهم، يهمه أمرهم، ويعنيه أن يبقى لهم ملكهم، ويدوم لهم مجدهم، فهو يخاطبهم بهذه الروح: ( يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ) " (غافر:29) . [ ص: 47 ]

          ثم يخوفهم مما أصاب الأمم من قبلهم حين أعرضوا عن دعوة الله تعالى وطاعة رسله: ( يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب * مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ) (غافر:30-31)

          وبعد أن يخوفهم من عذاب الدنيا يثير فيهم الخوف من عذاب الآخرة التي يؤمنون بها بصورة من الصور: ( ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هـاد ) (غافر:32-33) .

          ويستمر هـذا المؤمن المخلص في دعوته لقومه بهذا الأسلوب الذي يفيض رقة وحنوا، مرهبا حينا، ومرغبا حينا آخر: ( يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد * يا قوم إنما هـذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هـي دار القرار ) ...... ( ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار * تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار ) (غافر:38-42) ، إلى أن يقول لهم في ختام وصيته: ( فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد ) (غافر:44) .

          هذا هـو الأسلوب الذي ينبغي لأصحاب الدعوات أن يتبعوه في دعوتهم للمعاندين، ومخاطبتهم للمخالفين، وحسبنا وصية الله تعالى للرسولين الكريمين موسى وهارون : ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) (طه:43-44) .

          ولهذا لما واجه موسى فرعون عرض عليه الدعوة في هـذه الصورة [ ص: 48 ] الرقيقة: ( هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى ) (النازعات:18-19) .

          ولا غرو أن أنكر الدعاة الوعاة على بعض الشباب المخلصين الطريقة التي يتعاملون بها مع الناس في السلوك، أو يتحاورون بها مع المخالفين في الفكر، فقد غلب عليها المخاطبة بالخشونة والشدة، والمواجهة بالغلظة والحدة، ولم يعد جدالهم لمعارضيهم بالتي هـي أحسن، بل بالتي هـي أخشن، ولم يفرقوا في ذلك بين الكبير والصغير.. ولم يميزوا بين من له حرمة خاصة كالأب والأم، ومن ليس كذلك.. ولا بين من له حق التوقير والتكريم كالعالم الفقيه، والمعلم المربي، ومن ليس كذلك، ولا بين من له سابقة في الدعوة والجهاد، ومن لا سابقة له.. ولم يفصلوا بين من له عذره إلى حد ما - كالعوام والأميين والمخدوعين - من الجماهير المشغولة بمعاشها ومتاعبها اليومية، ومن لا عذر له، ممن يقاوم الإسلام عن حقد، أو عمالة وخيانة، ويقتحم النار على بصيرة، وقديما فرق أئمة الحديث رضي الله عنهم بين عوام المبتدعين ممن لا يدعو إلى بدعته، وبين من نصب نفسه داعية للبدعة مروجا لها، مناضلا عنها، فقبلوا رواية الأول، وردوا رواية الآخر.

          التالي السابق


          الخدمات العلمية