الاتجاه الظاهري في فهم النصوص
ولا عجب أن رأينا كثيرا من هـؤلاء يتمسكون بحرفية النصوص دون تغلغل [ ص: 63 ] إلى فهم فحواها ومعرفة مقاصدها، فهم في الحقيقة يعيدون " المدرسة الظاهرية " من جديد، بعد أن فرغت منها الأمة، وهي المدرسة التي ترفض التعليل للأحكام، وتنكر القياس تبعا لذلك، وترى أن الشريعة تفرق بين المتماثلين، وتجمع بين المختلفين.
وهذه " الظاهرية الحديثة " تتبع المدرسة القديمة في إغفالها للعلل، وإهمالها الالتفات إلى المقاصد والمصالح، وتنظم العادات والعبادات في سلك واحد، بحيث يؤخذ كل منهما بالتسليم والامتثال، دون بحث عن العلة الباطنة وراء الحكم الظاهر. وكل الفرق بين القدامى والجدد، أن أولئك أعلنوا عن منهجهم بصراحة، ودافعوا عنه بقوة، والتزموه بلا تحرج، أما هـؤلاء فلا يسلمون بظاهريتهم، على أنهم لم يأخذوا من الظاهرية إلا جانبها السلبي فقط، وهو رفض التعليل مطلقا، والالتفات إلى المقاصد والأسرار.
وأنا مع المحققين من علماء المسلمين في أن الأصل في العبادات هـو التعبد بها دون نظر إلى ما فيها من مصالح ومقاصد، بخلاف ما يتعلق بالعادات والمعاملات. (ذكر ذلك الإمام الشاطبي مؤيدا بأدلته الشرعية في كتابيه الموافقات والاعتصام)
فلا يجوز أن يقال: إن إنفاق المال على فقراء المسلمين، أو على المشاريع الإسلامية النافعة، أهم من أداء فريضة الحج الأول، أو يقال: إن التصدق بثمن هـدي التمتع والقرآن في الحج أولى من ذبح النسك الذي تعظم به شعائر الله.
ولا يجوز أن يقال: إن الضرائب الحديثة تغني عن الزكاة ثالثة دعائم الإسلام، وشقيقة الصلاة في القرآن الكريم والسنة المطهرة. [ ص: 64 ]
ولا يجوز أن يستبدل برمضان شهر آخر للصيام، ولا بيوم الجمعة يوم آخر، - كيوم الأحد مثلا - لإقامة الصلاة الأسبوعية المعروفة المفروضة على المسلمين.
ولكن في غير العبادات - والعبادات المحضة خاصة - أي في مجال العادات والمعاملات ننظر إلى العلل، ونلتفت إلى المصالح والمقاصد المنوطة بالأحكام، فإذا اهتدينا إليها ربطنا الحكم بها إثباتا ونفيا، فإن الحكم - كما قالوا - يدور مع علته وجودا وعدما.
تأمل معي هـذه النصوص الشريفة:
أ- روى مالك والبخاري ومسلم وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار أو أرض العدو ) .
والناظر في علة هـذا المنع يتبين له أنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عن ذلك إلا مخافة أن يستهين به الكفار أو ينالوه بسوء.
فإذا أمن المسلمون ذلك، فلهم أن يصطحبوا المصاحف في أسفارهم إلى غير بلاد الإسلام، بلا حرج، وهذا ما يجري عليه العمل من كافة المسلمين اليوم دون نكير، بل إن أصحاب الديانات المختلفة في عصرنا، ليتنافسون في تسهيل وصول كتبهم المقدسة إلى شتى أنحاء العالم، تعميما للتعريف بدينهم والدعوة إليه. ويحاول المسلمون أن يلجوا هـذا المولج عن طريق ترجمة " معاني القرآن " حيث لسان الأقوام غير لساننا.
ب- ونص آخر، وهو ما صح من نهي النبي صلى الله عليه وسلم المرأة أن تسافر بغير محرم. [ ص: 65 ]
والناظر في علة النهي يراها ماثلة في الخوف على المرأة من أخطار الطريق، إذا سافرت وحدها في الفيافي والقفار، ولم يكن معها رجل يحميها، ممن يؤتمن عليها، ولا يمكن أن تتعرض لها الألسنة بالقيل والقال، وهذا لا يكون إلا الزوج أو المحرم.
فإذا نظرنا إلى السفر في عصرنا وتغير أدواته ووسائله، وجدنا مثل الطائرات التي تسع المئات، وتنقل الإنسان من قطر إلى قطر في ساعات قليلة، فلم يعد هـناك إذن مجال للخوف على المرأة إذا ودعها محرم في مطار السفر، واستقبلها محرم في مطار الوصول، وركبت مع رفقة مأمونة؛ وهذا ما قرره كثير من الفقهاء في شأن سفر المرأة للحج، فأجازوا لها أن تسافر للحج مع نسوة ثقات، بل مع امرأة واحدة ثقة، أو بدون نساء ولكن مع رفقه تؤتمن عليها.
ولعل مما يشهد لهذا ما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر أمته بزمن تخرج فيه الظعينة من الحيرة ( بالعراق ) إلى الكعبة لا تخاف إلا الله تعالى.
ج- ومما ورد في شأن السفر أيضا: نهيه عليه الصلاة والسلام ، الرجل المسافر أن يطرق أهله ليلا إذا طالت غيبته عنهم، وكان صلى الله عليه وسلم لا يطرق أهله ليلا: يدخل عليهم غدوة أو عشية.
وقد جاءت بعض الروايات تحدد العلة هـنا بأمرين:
1- اتقاء أن يظهر الرجل في صورة من يتهم أهله أو يتخونهم ويلتمس عثراتهم. فهو يريد أن يفاجئهم بعودته على غير توقع منهم، لعله [ ص: 66 ] يكشف شيئا مريبا مخبئا عنه، وهذا سوء ظن لا يرضاه الإسلام للمسلم في العلاقة الزوجية التي يرفعها الإسلام مكانا عليا.
2- أن يكون لدى المرأة علم بقدوم زوجها، حتى تتجمل له، وتتهيأ بدنيا ونفسيا لاستقباله، وإليه الإشارة في الحديث ( كي تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة ) . وهذا سر التعبير بطول الغيبة في الحديث السابق.
ومن هـنا نقول: إن باستطاعة المسافر في عصرنا أن يحضر أي وقت تيسر له من ليل أو نهار، إذا أخبر أهله بطريق الهاتف أو البرق أو البريد أو غيرها، وبخاصة أن المسافر في عصرنا ليس مختارا دائما في اختيار الوقت الذي يرجع فيه؛ لأن الطائرات والبواخر ونحوها هـي التي تجبره على مواعيدها، وليس هـو الذي يختارها، بخلاف راكب الناقة قديما، فإن مركبه ملكه يتحرك به متى شاء، ويقيل أو يبيت متى شاء، ويعجل أو يؤجل عودته كيف شاء.
وإنما قلت: إن " العبادات المحضة " لا تعلل، بهذا التقييد، لإخراج الزكاة من هـذه الدائرة؛ لأنها ليست عبادة محضة كالصلاة والصيام والحج، بل هـي جزء من النظام المالي والاقتصادي في الإسلام.
ولهذا تذكر في الفقه مع العبادات باعتبارها ركنا دينيا أساسيا، وتذكر في كتب الخراج والأموال والأحكام السلطانية والسياسة الشرعية باعتبارها موردا من الموارد المالية الثابتة في الشرع الإسلامي، ودعامة من دعائم النظام الاقتصادي الإسلامي، ولهذا علل الفقهاء أحكامها، وحددوا علة الوجوب فيها بأنه " المال النامي " بالفعل أو بالإمكان، ودخل في أحكامها القياس في جميع المذاهب المتبوعة. [ ص: 67 ]
ولهذا رجحت القول بوجوب الزكاة - العشر أو نصفه - في كل ما أخرجت الأرض المزروعة من حب أو ثمر، جافا كان أو رطبا، مأكولا أو غير مأكول، لأن العلة في المال قائمة وهي " النماء " والعلة في نفس صاحب المال قائمة، وهي حاجته إلى التطهر والتزكي ( تطهرهـم وتزكيهم بها ) والعلة في الفقراء وأهل الحاجة قائمة، وهي أن للفقراء حقا في أموال الأغنياء، وصاحب الزرع والثمر منهم.
وقد ناقشني بعض هـؤلاء الظاهريين بأن هـذا خلاف ما تدل عليه النصوص.
قلت: أي نصوص تعني؟
قال: حديث ( ليس في الخضروات صدقة )
قلت: حديث ضعيف ، لم يصححه أحد من أئمة الحديث، فلا يحتج بمثله، فضلا عن أن يخصص به عموم القرآن والسنة. وقد رواه الإمام الترمذي ثم ضعفه، ثم قال: لا يصح في هـذا الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال: لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ زكاة من الخضروات.
قلت: لي على هـذا جوابان:
أحدهما ما قاله الإمام ابن العربي : أنه لا حاجة إلى نقل مثل هـذا، والقرآن يغني عنه، يعني آية الأنعام. ( وآتوا حقه يوم حصاده ) .
والثاني: أن عدم أخذه - لو صح - يحمل على أنه تركه لضمائر أصحاب المال يخرجونه بأنفسهم، لصعوبة حفظ الخضروات والفواكه في زمنهم وتعرضها للتلف والفساد.
قال: وحديث آخر تركته يحصر الزكاة في أربعة أشياء: التمر والزبيب والحنطة والشعير. [ ص: 68 ]
قلت: هـذا الحديث لم يصل إلى درجة الصحة كما قرر ذلك أئمة الحديث انظر كتابنا " فقه الزكاة " 1/349-358، ولهذا لم يأخذ به أحد من الأئمة المتبوعين، فكيف يقاوم النصوص العامة الثابتة التي أوجبت الزكاة في عموم ما أخرجت الأرض، مثل قوله تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ) (البقرة:267) .
وقوله: ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ) (الأنعام:141) وقوله عليه الصلاة والسلام : ( فيما سقت الأنهار والغيم العشور وفيما سقي بالساقية نصف العشور ) [1] وهذه النصوص لم تخص نوعا من الحاصلات دون نوع، والعلة في التسوية بينها -بإيجاب العشر أو نصفه فيها - بينة واضحة. وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة ، وقبله عمر بن عبد العزيز ، هـو الموافق لحكمة التشريع.
ورضي الله عن الإمام المالكي المنصف القاضي أبي بكر بن العربي ، الذي نصر مذهب أبي حنيفة في هـذه القضية، في تفسيره لآية: ( وهو الذي أنشأ جنات ) من كتابه " أحكام القرآن " وفي شرحه لحديث: ( فيما سقت السماء العشر ) في كتابه (عارضة الأحوذي في شرح الترمذي) . [ ص: 69 ]
ومما قاله في التفسير بعد عرض المذاهب ومآخذ استدلالها: وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق [2]
ومما قاله في شرح الترمذي:
وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة دليلا، وأحوطها للمساكين، وأولاها قياما بشكر النعمة، وعليه يدل عموم الآية والحديث [3]
والخلاصة
إننا إذا لم نرد الأحكام إلى عللها، سنقع في تناقضات خطيرة، نفرق بها بين المتساويات ونسوي بها بين المختلفات، وليس هـذا هـو العدل الذي قام عليه شرع الله تعالى.
صحيح أن هـناك مجترئين يقتحمون حمى هـذه الأمور بلا رسوخ ولا بينة، فيلتمسون للأحكام عللا لم يقم عليها دليل، إنما هـي من وحي أهوائهم، وتسويل أنفسهم، ولكن هـذا لا يمنعنا أن نقرر الحق لأصحابه، ونفتح الباب لأهله، حذرين ومحذرين من الدخلاء والمتطفلين.