مراتب النـاس مع الأعمـال...
وكما أن الأعمال - مأموراتها ومنهياتها - مراتب، فالناس كذلك مراتب، [ ص: 179 ] وأقصد بالناس هـنا: أهل الإسلام, ولهذا يخطئ بعض المتدينين أشد الخطأ حين يعامل الناس كل الناس على أنهم في مرتبة واحدة، دون تمييز بين العموم والخصوص، وخصوص الخصوص، ولا تفريق بين المبتدئ والمنتهي، ولا بين الضعيف والقوي، مع أن في الدين متسعا للجميع، حسب مراتبهم واستعداداتهم، ولهذا كان فيه العزيمة والرخصة، وفيه العدل والفضل، وفيه الفرض والنفل، والالتزام والتطوع، وقديما قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقال الله تعالى: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ) (فاطر: 32) .
وقد فسر الظالم لنفسه بأنه: المقصر في بعض الواجبات، والمرتكب لبعض المحظورات.
وفسر المقتصد بأنه: المقتصر على فعل الواجبات وترك المحرمات.
وفسر السابق بالخيرات بأنه: الذي لا يكتفي بفعل الواجبات، بل يزيد عليها السنن والمستحبات، ولا يقف عند ترك المحرمات، بل يضيف إليها اتقاء الشبهات والمكروهات، بل يدع بعض ما لا بأس به حذرا مما به بأس.
وهذه الأصناف الثلاث جميعا -بما فيها الظالم لنفسه - داخلة في الأمة المصطفاة التي أورثها الله الكتاب بنص الآية الكريمة: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) (فاطر:32) .
ولهذا كان من الخطأ والخطل إخراج بعض الناس من الملة والأمة لمجرد أنهم عصاة ظلموا أنفسهم. [ ص: 180 ]
وكان من الخطل أيضا إسقاط هـذه المراتب، ومعاملة الناس على أنهم كلهم يجب أن يكونوا سابقين بالخيرات بإذن الله.
ومن المتدينين المخلصين من يدفعه الحماس الدافق، والحس المرهف، فيسارع إلى رمي بعض المسلمين بالفسوق عن الدين، ويتخذ منه موقف الجفاء أو العداء لمجرد ارتكابهم لبعض صغائر الذنوب، وربما بعض المشتبهات التي يختلف العلماء في حكمها، وتتعارض فيها الأدلة، ولا ترقى إلى الحرام المقطوع به بحال.
لقد نسي هـؤلاء المخلصون الطيبون أنه لا يجوز أن نسقط اعتبار الآخرين بمجرد إلمامهم ببعض صغائر الذنوب، فإن القرآن الكريم استثنى " اللمم " فلم يعده مسقطا لإحسان المحسنين، كما أعلن أن اجتناب الكبائر مكفر للصغائر.
يقول تعالى: ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى * الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة ) (النجم: 31-32) .
وفي معنى " اللمم " المستثنى في الآية الكريمة وجهان ذكرهما المفسرون، ينبغي ألا نغفل عنهما، لما فيهما من بيان سعة مغفرة الله تعالى، المذكورة في الآية.
قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية (4255-256) :
فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي: [ ص: 181 ] لا يتعاطون المحرمات الكبائر، وإن وقع منهم بعض الصغائر، فإنه يغفر لهم، ويستر عليهم، كما قال في الآية الأخرى: ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ) (النساء: 31) ، وقال هـهنا: ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) وهذا استثناء منقطع، لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال.
ثم ذكر ابن كثير الحديث الذي رواه أحمد والشيخان ( عن ابن عباس قال:
ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هـريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين: النظر، وزنا اللسان: النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. )
وهكذا جاء عن ابن مسعود وأبي هـريرة تفسير اللمم بنحو: النظرة، والغمزة، والقبلة، والمباشرة، ما لم يمس الختان الختان، وهو الزنا.
التفسير الآخر للمم مروي " عن ابن عباس أيضا، قال: هـو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب. " وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما؟! )
(نسبه ابن كثير إلى ابن جرير والترمذي ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب. وقال ابن كثير : في صحته مرفوعا نظر.
وعن أبي هـريرة والحسن نحوه. [ ص: 182 ]
ووجه هـذا القول: أن اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان بعض الأحيان ولا يتعمق فيه، ولا يقيم عليه يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه، ويقال: ما فعلته إلا لماما وإلماما، أي: الحين بعد الحين.
وهذا يدل على أن في دين الله متسعا لكل من لم تصبح الكبائر خطا ثابتا في حياته، وأن مغفرة الله تسع كل الذنوب لمن تاب منها.
ومن روائع الدروس التربوية الإسلامية ما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في تعليم الناس كيف يتغاضون عن صغائر الذنوب وتوافه العيوب، إذا وقعت ممن يؤدي الفرائض، ويجتنب الكبائر، فليس هـناك إنسان معصوم، وكل بني آدم خطاء، ولم يخلق الله البشر ملائكة مطهرين.
روى ابن جرير بسنده عن ابن عون " عن الحسن البصري : أن ناسا سألوا عبد الله بن عمر بمصر ، فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله عز وجل ، أمر أن يعمل بها، لا يعمل بها، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك.. فقدم وقدموا معه.. فلقي عمر رضي الله عنه ، فقال: متى قدمت؟
قال: منذ كذا وكذا..
قال: أبإذن قدمت؟
قال الحسن: فلا أدري كيف رد عليه
فقال: يا أمير المؤمنين، إن ناسا لقوني بمصر، فقالوا: إنا نرى أشياء في كتاب الله أمر أن يعمل بها، فلا يعمل بها، فأحبوا أن يلقوك في ذلك.
قال: فاجمعهم لي.
قال: فجمعتهم له (قال ابن عون: في بهو) ، فأخذ أدناهم رجلا
فقال: أنشدك بالله، وبحق الإسلام عليك: أقرأت القرآن كله؟ " [ ص: 183 ]
" قال: نعم.
قال: فهل أحصيته في نفسك؟ (يعني: هـل استقصيت العمل به في تصحيح نيتك وتطهير قلبك، ومحاسبتك نفسك؟) .
فقال: اللهم لا. (ولو قال: نعم، لخصمه) أي: لأفحمه وألزمه الحجة.
قال: فهل أحصيته ببصرك؟ فهل أحصيته في لفظك (أي: كلامك) ؟ فهل أحصيته في أثرك (أي: في خطواتك ومشيك) ؟
ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم. (يعني: وهو يسألهم: هـل استقصيتم العمل بكتاب الله كله في أنفسكم وجوارحكم، وأقوالكم وأعمالكم، وحركاتكم وسكناتكم؟ وهم بالطبع يجيبون: اللهم لا) فقال: ثكلت عمرا أمه! أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله (أي: بالصورة التي تفهمونها أنتم، ولم تقيموها في أنفسكم باعترافكم) .
قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات.. وتلا: ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ) (النساء: 31) .
ثم قال: هـل علم أهل المدينة - أو قال: هـل علم أحد - بما قدمتم؟
قالوا: لا..
قال: لو علموا لوعظت بكم! (أي: لجعلتكم عظة ونكالا لغيركم " [1]
وبهذا الفقه العمري الواعي لكتاب الله, حسم أمير المؤمنين رضي الله [ ص: 184 ] عنه هذه القضية في بدايتها، وسد بابا للتشدد والتنطع، لو كان تساهل فيه، لربما هـبت منه رياح فتنة لا يعلم إلا الله مدى عواقبها.