ومن الفقه اللازم كذلك: مراعاة سنن الله الكونية والشرعية في التدرج، [ ص: 190 ] والصبر على الأشياء حتى تنضج وتبلغ مداها، ذلك أن العجلة التي هـي طبيعة الإنسان عامة، والشباب خاصة، والسرعة التي هـي من طبيعة هـذا العصر، تجعل كثيرين من الشباب المتحمس لدينه، يريد أن يغرس اليوم ليجني الثمرة في الغد، أو يزرع في الصباح ليحصد في المساء، ذاهلين أن سنة الله الكونية تأبى هـذا، فالنواة لا تصبح شجرة مثمرة إلا بعد مراحل تقصر أو تطول، حسب نوعها وتربتها ومناخها، وظروف نمائها، إلى أن تؤتي أكلها بإذن ربها.
والجنين يتكون: نطفة، فعلقة، فمضغة، فعظاما يكسوها الله لحما، ثم ينشئه خلقا آخر، حتى يخرج إلى الحياة طفلا ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) (المؤمنون:14) .
والطفل ينزل من بطن أمه وليدا، فرضيعا، ففطيما، فصبيا، فيافعا، حتى يبلغ أشده. وهكذا تتدرج الحياة في كل صورها، من مرحلة إلى مرحلة حتى تكتمل " سنة الله في خلقه " ، وكذلك بدأ ديننا أول ما بدأ: عقيدة سهلة، ثم أنزل الله التكاليف شيئا فشيئا، وفرض الفرائض، وحرم المحرمات، وفصل الشرائع بالتدريج، حتى كمل البناء، وتمت النعمة. ونزل قوله تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة:3) .
يجتمع بعض الفتية المتحمسين إلى أمثالهم، فيتشاكون ويتألمون، لما انتهى إليه حال المسلمين، فيؤلفون من أنفسهم جماعة لإصلاح ما فسد، وبناء ما انهدم، وهنا يتمنون فيسرفون في التمني، ويلمون فيغرقون في أحلام اليقظة، يحسبون أنهم قادرون على أن يحقوا الحق، ويبطلوا [ ص: 191 ] الباطل، ويقيموا دولة الإسلام في الأرض، بين عشية وضحاها، ذاهلين عن العوائق والعقبات وما أكثرها! مضخمين لما معهم من إمكانات وما أقلها! فهم كالرجل الذي قال لابن سيرين : إني رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء، وأطير بغير جناح، فما تعبير رؤياي؟! قال: أنت رجل كثير الأماني والأحلام! " ورضي الله عن الإمام علي حين قال لابنه في وصيته: " ... وإياك والاتكال على المنى، فإنها بضائع النوكي! يعني: الحمقى " . "
وما أصدق ما قال الشاعر قديما:
ولا تكن عبد المنـى فالمنى رءوس أموال المفاليس!
إن الواقع السيئ لا يتغير بالأماني الطيبة، فإن لله سننا في تغيير المجتمعات والأقوام لا تحابي أحدا.وقد كتب الباحث السوري الأستاذ جودت سعيد كتابا قيما في " سنن تغيير النفس والمجتمع " جعل عنوانه " حتى يغيروا ما بأنفسهم " اقتباسا من الآيتين الكريمتين:
1- ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11) .
2- ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الأنفال:53) ، وهو دراسة نفسية اجتماعية عميقة في ضوء القرآن الكريم.
ومن جيد ما قاله في مدخل بحثه: [ ص: 192 ]
في شباب العالم الإسلامي من عندهم استعداد لبذل أنفسهم وأموالهم في سبيل الإسلام، ولكن قل أن تجد فيهم من يتقدم ليبذل سنين من عمره ليقضيها في دراسة جادة، لينضج موضوعا، أو يصل به إلى تجلية حقيقية، مثلا: كمشكلة الانفصال الذي يعيشه المسلم بين سلوكه وعقيدته، إذ كثير من الأسئلة التي تطرح، ولا جواب شافيا لها، مع أنه لا يمكن التغيير من وضع إلى وضع، إلا بعد إجابة موضوعية عن هـذه الأمثلة، ولا يمكن ذلك إلا بعد الدرس والتحصيل.
والسبب في بطء نمو دراسات من هـذا النوع، هـو أنه لم تكشف بعد قيمة الدراسة في الوسط الإسلامي، والذي ظل وقتا طويلا يرى " السيف أصدق أنباء من الكتب " ، ولم يكن اتجاهه إلى أن (الرأي قبل شجاعة الشجعان) .
وظلت هـذه الآراء المختلفة في ظلمات بعضها فوق بعض، ولم يروا العلاقة الصحيحة بينها، ولا الترتيب الطبيعي لها.
كما لم تدرس بعد في العالم الإسلامي شروط الإيمان، وليس معنى هـذا أنهم لم يحفظوا أركان الإيمان والإسلام، ولكن نعني بشروط الإيمان، الشروط النفسية، أي: ما يجب تغييره مما بالنفس، لأن هـذا التغيير هـو الذي يتيح ثمرات الإيمان، أي: شروط مطابقة العمل مع العقيدة، وموانع إعطاء العقيدة ثمراتها.
وإلى الآن ينظر إلى بذل المال وبذل النفس على أنهما أعلى المراتب، دون مراعاة ما يجعل بذل المال والنفس مجديا، إذ ليس الأمر مجرد بذل وكفى؛ لأن البذل لا يعطي نتائجه إلا بشروطه الفنية. [ ص: 193 ]
إن هـذا النظر، يساعد على إمكان أن يبذل الشاب المسلم ماله ونفسه، بينما لا يتيسر له حبس نفسه على بذل الجهد المتواصل للدرس والفهم.
وهناك سبب آخر، وهو أن بذل المال وبذل النفس، يمكن أن يتم في لحظة حماس وتوتر، ولكن طلب العلم لا يتم في لحظة حماس، وإنما يتم في جهد متواصل يحتاج لنوع من الوعي، كوقود، يجعل الاستمرار ممكنا.
نعم: كثير من الشباب، في لحظة من لحظات الحماس، يبدءون أعمالا ودراسات في مواضيع مختلفة، ولكن بعد جلسة أو جلستين أو أكثر من ذلك، يفتر الحماس، وينزل الملل، ثم ينقطع ما بدأ من عمل، كما ينطفئ المصباح حتى يفقد وقوده.
فلا بد من درس هـذه النظرات المعوقة، وكشف عوامل الغفلة عن الدراسة، أو الانقطاع عنها بعد البدء؛ لأن ذلك يحدث ضمن شروط معينة دقيقة، تخفى عن النظرات العجلى..
وكذلك من المفارقات، أن نتطلع بشوق إلى تغيير الواقع، دون أن يخطر في بالنا، أن ذلك لن يتم، إلا إذا حدث التغيير قبل ذلك بما بالأنفس، ونحن مطمئنون إلى ما بأنفسنا، ولا نشعر أن كثيرا مما فيها، هـو الذي يعطي حق البقاء لهذا الواقع الذي نريد أن يزول، ونحن نشعر بثقل وطأته علينا، ولكن لا نشعر بمقدار ما يساهم ما في أنفسنا، لدوامه واستمراره.
فهذا ما يريد القرآن أن يعلمه البشر، في تفسير ما يحل بهم، حين يلح [ ص: 194 ] في إظهار: أن مرد المشكلة إلى " ما بالنفس " وليس من الظلم الذي يحيق بالإنسان من الخارج، بل، من الظلم الذي ينزله الإنسان بنفسه، وهذا هـو لب التاريخ، وسنة الاجتماع، الذي يقرره القرآن، وبإغفاله تظلم الحياة، وتنشأ الفلسفات المتشائمة الخانعة، أو الفلسفات المتسلطة المارقة.
ومن أكبر الظلم الذي ينزله الإنسان بنفسه أن لا يرى العلاقة التسخيرية الموجودة بين الإنسان والكون والمجتمع " الآفاق والأنفس " فيهمل نفسه، ولا يضعها في المكان الذي يسخر الآفاق والأنفس على أساس السنن المودعة فيها، وبناء على هـذا يمكن أن نقول:
إن العقل يمكن أن يتخذ أحد موقفين إزاء المشاكل: إما أن يفرض فيها أنها تخضع لقوانين، وبالتالي يمكن أن تخضع المشكلة للسيطرة عليها وتسخيرها، وإما أن يفرض فيها أنها لا تخضع لقوانين، أو لا يمكن كشف قوانينها، وبين هـذين الموقفين مواقف متعددة، يتفاوت فيها القرب من أحدهما والبعد عن الآخر.
إن لكل من الفرضيتين نتائج عملية، تظهر في مواقف البشر وسلوكهم، بصور متفاوتة، على حسب الخضوع لأحد الموقفين.
وعجز المسلمين أن يعيشوا وفقا للعقيدة الإسلامية، مشكلة لا يحتاج إثباتها إلى بذل جهد كبير.
ولكن بعد التسليم بأنها مشكلة، يبقى أن يظهر، أي الموقفين يتخذ المسلمون إزاءها؟ هـل يتخذون الموقف الأول؟ بأن يفرضوا وجود قوانين تخضع لها المشكلة، وبكشفها يمكن السيطرة عليها وتسخيرها؟ أم [ ص: 195 ] يعتقدون أن المشكلة لا تخضع لقوانين يمكن أن يكشفها الإنسان، وبالتالي لا جدوى من جد الإنسان للبحث عن هـذه القوانين، لأن القوانين التي تخضع لها المشكلة، حسب اعتقاد البعض، " تعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة، غامضة الأسباب " .
إن طرح هـذا الموضوع بصيغة تجعله تحت وعي المسلم، يفيده لأن يحدد عن وعي موقفه من المشكلة، ويخرج من الموقف الغامض الذي يتخذه، وفي أحيان كثيرة يختلط الموقفان بصورة مشوشة في ذهنه، بحيث يشل أحدهما مفعول الآخر، فيبقى الموضوع في غموض وشلل.
إن لسلامة النظرية، أثرا هـاما في الوصول إلى الحل، بل يتوقف الحل، على صحتها ومقدار وضوحها.