سجود القلب
وإذا كنا نلحظ في تاريخنا انفصالا بين الفكر السياسي والفكر الثقافي التشريعي [ ص: 131 ] عندنا، فهناك انفصال وقع بين الفقه التربوي والتشريعي أيضا، فانفصل ما يسمى بعلم القلوب أو علم التصوف أو علم التربية.
** أو ما أسموه الحقيقة والشريعة.
نعم؛ انفصل هـذا عن ذاك في واقعنا الإسلامي انفصالا مرا.. ونحن نعلم أن كتب التصوف تملأ المكتبات، وأن الطرق الصوفية زحمت العالم الإسلامي دهرا، وأن الاستغناء ممكن عن هـذه الطرق؛ بل قد تصلح الحياة وترشد بدون هـذه الطرق، لكنها لا تصلح ولا ترشد إذا بقي القلب الإنساني دون تعهد فقيه، بمعنى أن التربية أساس في تكوين الأمم، والتربية التي لا بد منها كي تكون النفوس راشدة والمجتمعات فاضلة، هـي التي تقوم على فهم مقام الإحسان، أو رقابة الله على الضمير البشري في سلوكه كله، ليله ونهاره.. هـذه الرقابة هـي التي ينشأ عنها الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والمحبة الورع والتوبة ومعرفة المعاصي الكبيرة التي هـي أخطر من معاص الأبدان، بمعنى أنه كيف تغسل النفوس من حب الظهور.. من الأنانية.. من الحقد.. من طلب الرئاسة.. من العراك على المآرب الخسيسة.. من الذهول في طلب الدنيا عن الآخرة.. هـذا كله إذا فقدناه، فإن هـيكلا تشريعيا كبيرا لا يغني مكانه، وكان مفروضا أن العلماء يربونالأجيال ابتداء على هـذه المعاني، فإن هـذا ما بني عليه المجتمع الأول.
وعندما تتأمل تراث ابن تيمية - الذي يعتبر خصما للصوفية - أو ابن القيم تلميذه، فإنك ترى أن ابن تيمية رصد جزأين من فتاواه تقريبا في القلوب، والحديث عن الله وخشيته، والعمل له والإخلاص والإحسان، وما إلى ذلك من المعاني التي خاض فيها المتصوفة بدون وعي فقهي.. وجاء تلميذه ابن القيم وفصل هـذا في كتابه "طريق الهجرتين"، وكتابه "مدارج السالكين"، وكتابه "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين"، وكتب كثيرة.. وكان أكثر من أستاذه توسعا في هـذه النواحي.. هـذه المعاني معدومة الآن، ونجد من يعلم حركات الصلاة من ركوع وسجود، ولا يحسن تعليم الخشوع وتقديس الله وسجود القلب مع سجود الجوارح.. وهذا خطأ هـائل. [ ص: 132 ]