الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        الجامع لأحكام الوقف والهبات والوصايا

        خالد المشيقح - أ.د/ خالد بن علي بن محمد المشيقح

        صفحة جزء
        الشرط السادس: أن لا يمرض الولد مرضا مخوفا.

        صورة ذلك: أن يهب شخص لولده شيئا من المال فيمرض الولد، فهل يكون مرض الولد مانعا للوالد من الرجوع في ذلك المال؟.

        اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

        القول الأول: أن الولد إذا مرض مرضا مخوفا امتنع على الوالد الرجوع فيما وهب له.

        ويفهم من ذلك: أنه إن مرض مرضا غير مخوف لا يمنع رجوع الأب.

        وهو مقتضى قول الحنفية، وإلى هذا القول ذهب المالكية، وهذا هو مقتضى مذهب الحنابلة.

        أما الحنفية: فلأنهم يرون أن الإنسان إذا مرض مرضا مخوفا تعلقت حقوق الورثة بماله، وحقوق الورثة إذا تعلقت بالمال انقطع التصرف فيه -إلا لمصلحة الميت- حتى يأخذوا حقوقهم.

        وأما الحنابلة: فلأنهم يرون ما يراه الحنفية، ويرون كذلك أن مرض الابن قاطع لسبب تملك الأب من مال ولده، فكذلك هنا. [ ص: 132 ]

        وحجته:

        1- أثر عائشة -رضي الله عنها- وفيه نحلة أبي بكر لها رضي الله عنه.

        ووجه الاستدلال هنا: أن أبا بكر لما مرض قال لعائشة -رضي الله عنها-: "إن المال اليوم صار مال وارث" مع أن أبا بكر ما زال على قيد الحياة، ولكنه جعل مرضه المخوف بداية تعلق حق الوارثين بالمال، ولو لم يكن قد تعلقت به حقوقهم لقال لها حوزيه قبل أن أموت؛ فإني إذا مت صار مال وارث، فدل ذلك على أن حقوق الورثة تتعلق بالمال بمرض مورثهم مرضا مخوفا، وإذا كان الأمر كذلك فإن الولد إذا مرض مرضا مخوفا امتنع على والده الرجوع فيما وهب له؛ لتعلق حق الوارث بالتركة.

        2- أن الولد إذا مرض مرضا مخوفا تعلقت حقوق الورثة بأمواله، فلا يحق لواحد منهم أن ينفرد بها عن غيره.

        ولكن المالكية اختلفوا فيما إذا زال المرض هل تعود إمكانية الرجوع، أو لا تعود؟ على قولين:

        القول الأول: أنها تعود.

        القول الثاني: أنها لا تعود.

        قال ابن رشد: "والقول الأول أظهر; لأن الاعتصار إنما امتنع في [ ص: 133 ] المرض مخافة الموت، فإذا زال المرض ارتفعت العلة بزواله، ولو اعتصر في المرض فلم يعثر على ذلك حتى صح لوجب أن يمضي".

        ومعنى هذا أن مذهب المالكية هو: أن امتناع رجوع الوالد على ولده بالمرض المخوف امتناع مؤقت، فإن مات الابن بذلك المرض فات الفسخ، وإن لم يمت عادت إمكانيته.

        ولذلك قال ابن رشد الجد: "ولو قيل: إن الاعتصار في المرض يكون موقوفا حتى ينظر هل يصح أو يموت؟ لكان هو وجه القياس والنظر".

        القول الثاني: أن ذلك لا يمنع الأب من الرجوع.

        وإليه ذهب الشافعية احتمالا متجها، وإن كان الجاري على قاعدتهم هو القول الأول; لأنهم يرون أن حقوق الورثة تتعلق بالمال في المرض المخوف.

        وحجته: أن كون الشخص إذا مرض مرض الموت حجر عليه لا يقدح في رجوع الأب; لأن الحجر إنما هو على تصرفات المريض فقط، أما تصرفات غيره فلا يرد الحجر عليها.

        ويناقش: بأن الحجر إنما ورد على تصرفات المريض لحقوق الوارثين المتعلقة بالمال، فترد كذلك على غيره حماية للمال.

        الترجيح:

        يظهر -والله أعلم بالصواب- رجحان ما ذهب إليه أصحاب القول [ ص: 134 ] الأول، وهو أن مرض الابن مرضا مخوفا يفيت على الوالد الفسخ في هبته له؛ لما يحققه من حماية حقوق الورثة، ودفع الضرر عنهم.

        ثم إنه أيضا ليس فيه هدر لحق الوالد بالكلية; إذ هو أحد الورثة، وسيناله نصيب من تركة ولده، فلا يتحقق حرمانه بالكلية، ولا حرمان الورثة بالكلية كذلك.

        إلا إذا كان طريقا للعدل وتلافي الجور، ولا يمكن من العدل إلا بالرجوع. والله أعلم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية