قلت: وهذه الحجة هي التي تقدم ذكر اعتراض كثير من النظار [ ص: 179 ] عليها، حتى أتباع أبي المعالي، كالرازي والآمدي وغيرهم. وهم ينازعونه في قوله: إن بطلان ذلك معلوم بأوائل العقول، ويقولون: قد جوز ذلك طوائف متنوعة من العقلاء، الذين لم يتلقه بعضهم عن بعض من أهل الملل: المسلمين واليهود والنصارى، ومن الفلاسفة الأولين والآخرين وغيرهم، بل قد يقولون: إن هذا قول الأنبياء وأتباعهم، وفضلاء الطوائف، لا يريدون أن قدم العالم هو قول الأنبياء، بل والأرموي أو ما زال فاعلا، يفعل بنفسه ما شاء، أو ما زال يفعل الحوادث شيئا بعد شيء، أو نحو ذلك من المقالات، التي يقولون: إنها موافقة لقول الأنبياء صلوات الله عليهم، وأن أقوال الأنبياء لا تتم إلا بها. يعلمون أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبرت به الأنبياء، لكن يقولون: ما زال الله تعالى متكلما، تكلم بما شاء،
وأما قدم الأفلاك ودوامها، فهو قول طائفة قليلة، كأرسطو وأتباعه. وقد نقل أرباب المقالات أنه أول من قال بقدم ذلك من الفلاسفة، وأن الفلاسفة المتقدمين كانوا على خلاف قوله في ذلك، وقول أرسطو هذا وأتباعه، هو من أقوال الملاحدة المخالفين للرسل، فإن الأقوال التي تخالف ما علم من نصوص الأنبياء هي من أقوال الملاحدة، ومن عارض نصوص الأنبياء بعقله كان من الملاحدة.
وما الأقوال التي قالها الرسل، أو قالت ما يستلزمها، ولم تقل نقيض ذلك، فهذه لا تضاف إلى الملاحدة، بل من عارض نصوص الأنبياء بمعقوله، وادعى تقديم عقله على أقوال الأنبياء، واستند في ذلك إلى أصل اختلف فيه العقلاء، ولم يوافقه عليه الأنبياء، كان أقرب إلى أقوال [ ص: 180 ] أهل الإلحاد، ولكن قد تشتبه على كثير من النظار، فينصرون ما يظنونه من أقوال الأنبياء بما يظنونه دليلا عقليا، ويكون الأمر في الحقيقة بالعكس، لا القول من أقوال الأنبياء، بل قد يكون مناقضا لها، ولا الدليل دليلا صحيحا في العقل بل فاسدا، فيخطئون في العقل والسمع ويخالفونهما، ظانين أنهم موافقون للعقل والسمع، وآية ذلك مخالفتهم لصرائح نصوص الأنبياء، وما فطر الله عليه العقلاء. فمن خالف هذين كان مخالفا للشرع والعقل، كما هو الواقع في كثير من نفاة الصفات والأفعال.