الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد تنازع كثير من الناس في مسمى العلم والعقل، أيهما أشرف؟ وأكثر ذلك منازعات لفظية. فإن العقل قد يراد به: الغريزة، وقد يراد به: علم يحصل بالغريزة. وقد يراد به: عمل بالعلم.

فإذا أريد به علم كان أحدهما من جنس الآخر. لكن قد يراد بالعلم: الكلام المأثور عن المعصوم. فإنه قد ثبت أنه علم؛ لقوله: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم [سورة آل عمران: 61]. وأمثاله.

ويراد بالعقل: الغريزة. فهنا يكون أحدهما غير الآخر. ولا ريب أن مسمى العلم بهذا الاعتبار أشرف من مسمى العقل. فإن مسمى العلم هنا كلام الله تعالى، وكلام الله أشرف من الغريزة التي يشترك فيها المسلم والكافر.

وأيضا فقد تسمى العلوم المسموعة عقلا، كما قيل: [ ص: 22 ]


رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع     فلا ينفع مسموع
إذا لم يك مطبوع     كما لا تنفع العين
وضوء الشمس ممنوع



وأما العمل بالعلم، وهو جلب ما ينفع الإنسان، ودفع ما يضره، بالنظر في العواقب، فهذا هو الأغلب على مسمى العقل في كلام السلف والأئمة، كالآثار المروية في فضائل العقل.

ومنه الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان مرسلا: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات».

وبهذا الاعتبار فالعقل يتضمن العلم، والعلم جزء مسماه. ومعلوم أن مجموع العلم والعمل به أفضل من العلم الذي لا يعمل به.

وهذا كما قال غير واحد من السلف في مسمى الحكمة، كما قال مالك بن أنس: (الحكمة معرفة الدين والعمل به). وكذلك قال الفضيل بن [ ص: 23 ] عياض، وابن قتيبة، وغير واحد من السلف. قال الشاعر:


وكيف يصح أن تدعى حكيما     وأنت لكل ما تهوى ركوب



وقال آخر:


ابدأ بنفسك فانهها عن غيها     فإذا انتهت عنه فأنت حكيم



وهذا المعنى موجود في سائر الألسنة، لكن لكل أمة حكمة بحسبها، كما أن لكل أمة دينا. فاليونان لهم ما يسمونه حكمة، وكذلك الهند. وأما حكمة أهل الملل فهي أجل من ذلك.

ومما احتج به هؤلاء أنهم قالوا: لا يدرك بالعقل إلا ما يكنفه العقل ويحيط به علما. والباري سبحانه وتعالى لا تدركه العقول ولا تحيط به؛ لقوله تعالى: ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء [سورة البقرة: 255]وقوله: ولا يحيطون به علما [سورة طه: 110].

قال ذو النون المصري: (العقل عاجز ولا يدل إلا على عاجز، فأما الربوبية فلا سبيل إلى كيفية إدراكها بالعقول، ليس هو إلا الرضا والتسليم والإيمان والتصديق). لكن هذا الكلام وما يشبهه إنما يقتضي أن معرفة كنهه وحقيقته لا تدركه العقول. وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء، وإنما نازع في ذلك طوائف من متكلمي المعتزلة ومن وافقهم.

ولهذا كان السلف والأئمة يذكرون أنهم لا يعرفون كيفية صفاته. كقولهم: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول). وهذا الكيف المجهول هو [ ص: 24 ] التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. وهذا هو النوع الثالث من العلم الذي ذكر ابن أبي موسى أن الله انفرد به.

وقد قال ابن عباس: (التفسير أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله: من ادعى علمه فهو كاذب). وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبين أن لفظ التأويل لفظ مشترك بحسب الاصطلاحات: بين صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح، وبين تفسير اللفظ وبيان معناه، وبين الحقيقة التي هي نفس ما هو عليه في الخارج، وأن التأويل بالمعنى الثاني كان السلف يعلمونه ويتكلمون به، وبالمعنى الثالث انفرد الله به، وأما بالمعنى الأول فهو كتحريفات الجهمية التي أنكرها السلف وذموها.

ومما احتج به هؤلاء: القدر، وأن العلم والإيمان يحصل للعبد بفضل الله ورحمته.

التالي السابق


الخدمات العلمية