الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم الكلام في تعيين القديم الواجب، وأن السماوات محدثة، له طرق [ ص: 122 ] متعددة ضرورية ونظرية، كما قد بسط في موضع آخر، وبين أن معرفة الصانع فطرية ضرورية: معرفته بعينه، وأن السماوات والأرض وما بينهما مخلوقة له، حادثة بعد أن لم تكن، وأن كل مولود يولد على الفطرة وأن الله خلق عباده حنفاء، ولكن شياطين الإنس والجن أفسدوا فطرة بعض الناس، فعرض لهم ما أزاحهم عن هذه الفطرة.

ولهذا قالت الرسل: أفي الله شك فاطر السماوات والأرض [سورة إبراهيم: 10].

ولما قال فرعون لموسى على سبيل الإنكار، لما قال موسى: إني رسول من رب العالمين، قال: وما رب العالمين [سورة الشعراء: 23] قال له موسى: رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [سورة الشعراء: 24 - 28].

ولما قال لموسى وهارون: فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين [سورة الشعراء: 16].

قال ابن رشد: وأما المقدمة الثانية، وهي القائلة: إن الجائز [ ص: 123 ] محدث، فهي مقدمة غير بينة بنفسها، وقد اختلف فيها العلماء. فأجاز أفلاطون أن يكون شيئا جائزا أزليا، ومنعه أرسطوطاليس، وهو مطلب عويص، ولم يتبين حقيقته إلا لأهل صناعة البرهان، وهم العلماء الذين خصهم الله بعلمه، وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادته وشهادة ملائكته.

قلت: أما دعواه أن العلماء المذكورين في القرآن هم إخوانه الفلاسفة أهل المنطق وأتباع اليونان فدعوى كاذبة، فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الذين أثنى الله عليهم بالتوحيد ليس هم من المشركين الذين يعبدون الكواكب والأوثان ويقولون بالسحر، ولا ممن يقول بقدم الأفلاك، ولا ممن يقول قولا يستلزم أن تكون الحوادث حدثت بأنفسها ليس لها فاعل، ونعلم بالاضطرار أن العلم بالتوحيد ليس موقوفا على ما انفردوا به في المنطق من الكلام في الحد والقياس بما يخالفهم فيه أكثر الناس، كتفريقهم بين الذاتيات والعرضية اللازمة للماهية، وتفريقهم بين حقيقة الأعيان الموجودة التي هي ماهيتها، وبين نفس الوجود الذي هو الأمر الموجود، وأمثال ذلك.

وهذا الذي ذكره من ينازع هذين، فإنه ينصر قول [ ص: 124 ] أرسطوطاليس، ويقول: إن الجائز وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا، وينكر على ابن سينا قوله بأن الجائز وجوده وعدمه يكون قديما أزليا، وحكايته لهذا عن أفلاطون، قد يقال: إنه لا يصح فيما يثبته قديما من الجواهر العقلية، كالدهر والمادة والخلاء، فإنه يقول بأنها جواهر عقلية قديمة أزلية، لكن القول مع ذلك بأنها جائزة ممكنة، ونقل ذلك عنه فيه نظر.

وأما الأفلاك فالمنقول عن أفلاطون وغيره أنها محدثة، فإن أرسطوطاليس يقول بقدم الأفلاك والعقول والنفوس، وهي على اصطلاح هؤلاء ممكنة جائزة، وعلى أصله يكون أزليا، وهم ينقلون: إن أول من قال من هؤلاء بقدم العالم هو أرسطوطاليس، وهو صاحب التعاليم. وأما القدماء كأفلاطون وغيره، فلم يكونوا يقولون بقدم ذلك، وإن كانوا يقولون -أو كثير منهم-بقدم أمور أخرى قد يخلق منها شيء آخر، ويخلق من ذلك شيء آخر، إلى أن ينتهي الخلق إلى هذا العالم. فهذا قول قدمائهم، أو كثير منهم، وهو خير من قول أرسطو وأتباعه.

قال ابن رشد: وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه المقدمة [ ص: 125 ] بمقدمات: إحداها: أن الجائز لا بد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى من الثاني. والثانية: أن هذا المخصص لا يكون إلا مريدا. والثالثة: أن الموجود على الإرادة حادث.

التالي السابق


الخدمات العلمية