الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ابن رشد: (فخصماء هؤلاء المتكلمين لا يقولون: إن قبل هذه الدورة المعنية دورات لا نهاية لها بالمعنى الأول، أي ليس لها أول ولا آخر، بل يعترفون أنه حينئذ يكون للدورات آخر. وهذا عندهم هو الذي لا يتناهى بالمعنى الآخر وهو جائز عندهم).

قال: (لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود، هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه، أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما).

قال: (فهم إنما يضعون أن قبل هذه الدورة المشار إليها دورة، [ ص: 99 ] وقبل تلك الدورة دورة، إلى غير نهاية على التعاقب على محل واحد، كالحال في المستقبل، فإنا نقول: إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها، فيلزم أن يكون بعد هذه الدورة بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها، وبعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها، فيكون ما لا نهاية له أعظم مما لا نهاية له، وذلك محال).

فمعنى ما لا نهاية له الذي جعل مقتضاه محالا، هو الذي لا يقبل أن يزاد عليه، وهو ما لا أول له ولا آخر. وأما إذا قيل: وجد قبل هذه الدورة دورة، وقبلها دورة إلى غير نهاية، فهنا إنما نفيت النهاية عن الجانب الماضي دون المستقبل، فلا يطلق على الجملة أنها لا تتناهى؛ لأنها تناهت من أحد الجانبين، وإن كانت غير متناهية من الجانب الآخر. فهو يسلم امتناع انقضاء وجود ما لا يتناهى في الماضي، إذا أريد به ما لا يتناهى من الجانبين.

وما قدر متناهيا من أحدهما فلا يسلم امتناع انقضائه، ولا يطلق عليه أنه لا يتناهى، بل هو عنده قد تناهى لأنه انقضى، والتناهي [ ص: 100 ] والانقضاء واحد. لكن يقال فيه: إنه وجد شيئا قبل شيء إلى غير نهاية، فتكون النهاية مسلوبة عن ابتدائه، لا عن الجانب الذي انتهى إليه.

ويقال: لا يتناهى مقيدا لا مطلقا كما قال؛ لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز وجوده، هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه، أي يمكن أن يزاد عليه دائما، فهذا يسميه ما لا نهاية له الجائز وجوده، وهو أن يكون خارجا عنه شيء يمكن أن يزاد عليه دائما، هو إنما يقبل الزيادة من الجهة التي تناهى منها، فهو متناه من أحد الطرفين، غير متناه من الطرف الآخر.

فلهذا جاز أن يقال: ليس هو مما لا يتناهى لتناهيه من جانب، ويجوز أن يقال: هو لا يتناهى لعدم تناهيه من الجانب الآخر؛ ولهذا نقول: إنه لا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده. وما انقضى -ولا ينقضي إلا ما ابتدأ وجوده- لأنه إذا قدر أن الحوادث دائمة لم تزل ولا تزال فلم تنقض، وإنما يفرض الإنسان انقضاء الماضي فرضا، وإنما المنقضي ما لم يبق فيه شيء.

التالي السابق


الخدمات العلمية