الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
السؤال الثاني: أن يقال لهؤلاء كلهم، كأبي الحسين ومن وافقه: هذه المقدمة التي بنيتم عليها إثبات الصانع تعالى تناقضتم فيها، فإن حاصلها أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، أو لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح.

فإن هؤلاء يقولون: إذا حدث مع جواز أن يحدث وأن لا يحدث، لم يكن بالحدوث أولى من أن لا يكون.

والآخرون يقولون إذا تخصص بوقت دون وقت مع تشابه الأوقات، أو بقدر دون قدر، لم يكن تخصيصه بأحدهما أولى من الآخر إلا بمخصص، والأول ينبني على أنه قد استوى بالنسبة إلى ذاته الحدوث وعدمه، فيفتقر إلى مرجح للحدوث. والثاني ينبني على أن الأزمنة والمقادير والصفات مستوية. فلا بد من مخصص يخصص أحدهما بالوقوع فيه، وكل هذا مبني على أن الأمرين المتساويين في الإمكان لا يترجح أحدهما إلا بمرجح، وهذا حق في نفسه، لكنهم نقضوه حيث قالوا: إن هذه المحدثات والتخصيصات تقع بلا سبب يقتضي حدوثها ولا اختصاصها. [ ص: 165 ]

فإنهم، وإن أثبتوا فاعلا، لكن يقولون: إن نسبة قدرته وإرادته إلى جميع الممكنات سواء، وأنه حدثت الحوادث بلا سبب حادث أصلا بل حال الفاعل قبل الفعل وحين الفعل سواء، ومعلوم أن هذا تصريح برجحان الممكن بلا مرجح تام.

وهؤلاء يقولون: القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح. وهذا هو أصل قول القدرية، وهو أصل قول الجهمية الجبرية. فالقدرية أخرجوا به أفعال الحيوان أن تكون مخلوقة لله، وقالوا: إن العبد قادر مختار، فترجح الفعل على الترك بلا مرجح.

وقالوا: إن ما أنعم الله به على أهل الإيمان والطاعة مما يؤمنون به ويطيعون، هو مثل ما أنعم به على أهل الكفر والمعصية، فإنه أرسل الرسل إلى الصنفين، وأقدر الصنفين، وأزاح علل الصنفين، وفعل كل ما يمكن من اللطف الذي يؤمن عنده الصنفان، بمنزلة من أعطى ابنيه مالا بالسوية، ثم قالوا: إن المؤمن فعل الطاعة من غير نعمة خصه الله بها تعينه على الإيمان، والكافر فعل الكفر من غير سبب من الله.

وهذا القول مخالف للشرع والعقل. فإن الله بين ما خص به المؤمنين من نعمة الإيمان في غير موضع، كقوله تعالى: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون [سورة الحجرات: 7] والقدرية يقولون: إن هذا خطاب لجميع الخلق، وليس الأمر كذلك، بل هو خطاب للمؤمنين، كما قال: أولئك هم الراشدون [ ص: 166 ] وكما قال قبل ذلك: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم [سورة الحجرات: 6 - 7] فهذا خطاب للمؤمنين لا لجميع الناس.

التالي السابق


الخدمات العلمية